في قلب الخرطوم.. ‘أنين الأرض’ ملامح حرب وذكريات وطن
- لون الحقيقة
في يوم الثامن من مايو 2023، حيث كنت في طريق نزوحي الأول من منزلي، شعرت أن أحلامي قد تلاشت في الهواء. خنقتني غصة ثقيلة، كأنها عقدة حزن عالقة في حلقي، تستحكم مكانها كلما حاولت ابتلاع مرارة الواقع، وأنا أسير تجاه البص الذي سيقلني إلى مسقط رأسي. كان شعوراً غريباً، وكأنني ظل أتحرك بين الناس، لا أسمع إلا صوت الرصاص في كل اتجاه. كأنني في مشهد سينمائي، بينما كنت لا أبالي بشيء، لا يدور في بالي سوى أمر واحد، هو أنني لن أتمكن من العودة إلى منزلنا في الخرطوم مجدداً. وعندما يهدأ صوت الحرب، يعاودني شعور غريب عندما أسمع أصوات الطيور التي كانت تزقزق فوق شجيرات النيم المزروعة خارج المنزل، والتي لم تعد تأتي في مواعيدها المعتادة عند الفجر، فقد اختفت من شدة طَقطقة الرصاص وأزيز الطائرات الحربية.
عندما خرجت مع أسرتي من المنزل، متجهين صوب مسقط رأسي، لم يتملكني نفس الشعور بشغف البدايات كما كان يحدث في كل مرة أرتب فيها حقائبي، متوجهاً إلى ذلك المكان الذي أعشقه بكل تفاصيله: الجدات والجيران، المزارع والأبقار، حش البرسيم عند العصاري، رائحة الزرع عند المساء، هدوء الليل، تلك الرمال البيضاء على شاطئ النيل.
أكره الحرب، لكنني لم أعايش تفاصيلها وألمها العميق قبل الخامس عشر من أبريل. نعم، لم أرَ شخصاً يقتل أمامي، لكنني تلقيت أخباراً محزنة منذ اليوم الثاني من الحرب بمقتل جار، وتارة بنبأ مقتل صديق، وأخرى بنبأ وفاة أسرة كاملة في منزلها، وهم يظنون أن مأواهم سيكون مأمناً لهم في هذه الحرب المجنونة التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
اليوم، فقدنا الإحساس بشغف الحياة. أصبحنا نتمنى أن نغمض أعيننا، نفتحها لنجد أنفسنا في صباح الرابع عشر من أبريل 2023، وكأن ما مررنا به، وما مر به أبناء بلدي، كان كابوساً. حلمٌ مرير، نأمل أن نصحو منه لنرتشف كأساً من الماء من الزجاجة التي نضعها في نفس المكان من منزلنا.
“لا للحرب” هي الكلمة التي يجمع عليها الجميع في قلوب صادقة، نأمل أن تتوقف هذه الحرب العبثية. أبناء شعبي لا ناقة لهم في هذه الحرب بين الجنرالات، التي أحرقت كل شيء جميل في وطننا الحبيب.