المبدعُ السودانيُّ.. متلازمةُ الزّهدِ والكبد

كفاح

محمد آدم بركة

 

تزخرُ تجاربُ المبدعينَ السودانيينَ بالإبداعاتِ المغايرةِ، كلٌّ في مجالِهِ، إذْ نجدُ ما يثيرُ الحَيرةَ إنْ صوّبْنا سهامَ التّنقيبِ حولَ التجربةِ، كما نجدُ ما يثيرُ الدَّهشةَ والإعجابَ، ونجدُ البساطةَ النابعةَ عنْ بيئةِ التَّنشئة، ما بينَ الرِّيفِ والتّمدّنِ، وفي جانبٍ آخرَ، نجدُ المعاناةَ ماثلةً على البعدِ الإنسانيِّ.. فهو الشخصُ المكافحُ الذي يعاني من أجلِ الإبداعِ ويعاني مرّةً أخرى في معيشتِه وحياتِهِ الشَّخصية.

منذُ عقود خلتْ وما تزال، يقفُ عائقُ التَّخطيط لدى المبدعِ السودانيِّ كاتهامٍ مما ينقصُ التَّجربةَ أو يصوّبُ حولَها سهامَ الّلومِ النّقديِّ، هذا من الجانبِ الشخصيِّ كفطرةٍ جُبِلَ عليها، إلى جانبِ القصورِ الكبيرِ من قِبلَ المؤسساتِ المعنيّةِ بالإبداعِ والثّقافةِ والفنونِ.. فهنا تغيبُ فروضُ اللائمةِ عليه، وإنْ وقعت في القصورِ حولَ تجربتِه فهو لا يملكُ حيلةً غيرَ القيامِ بدورِه على أكملِ وجهٍ في الإنتاجِ الإبداعيِّ ومسايرةِ الحياةِ الشّخصيّةِ في متطلباتِه ومكابدتِه المستمرةِ دونَ التّفرّغِ الكاملِ للمشروع.

فهكذا لا يستطيعُ المبدعُ تغييرَ فروضِ واقعِ الحياةِ اليوميّةِ أمامه، إلا قلةً منهم يخطّطونَ لحياتهم الإبداعيّةِ والشّخصيّةِ بطرقٍ توفّرٍ لهم سُبلَ الراحةِ النّفسيّةِ المعينةِ على التّفرّغِ بقدرٍ كبيرٍ للمشروعاتِ الإبداعيّةِ، وهؤلاء على قلّتِهم من النوادرِ في نبوغِهم ووعيِهم بالمشروعاتِ والتجاربِ الإبداعيّةِ، ولكنّنا نجدُ واقعَ المكابدةِ والزّهدِ والبساطةِ من السِّماتِ التي عُرفَ بها المبدعُ السودانيُّ على مرِّ العقودِ الماضيةِ، ومضتْ أجيال ٌتلو أجيالٍ على ذلك، فباتَ الطريقُ غيرَ ممهدٍ ولا مفروشًا بالوردِ لكلِّ من يسلكُ هذا المجالِ بعد أنْ تتكشفَ موهبتُهُ.

لو تتبّعنا هذا الواقعَ الذي فرضتْه الظروفُ والفطرةُ على هذا المبدعِ، نجدُ -بطريقة أو بأخرى – أنها ألقتْ بظلالها على انحسارِ ظهورِ التجاربِ على كافّةِ المستوياتِ – هذا دونَ مسوّغاتٍ أخرى كثيرة – ومن هنا غابت أسماء وتجاربُ قيّمةٌ من سماءِ المحيطِ المحلّي قبل الفضاءِ العربيِّ والعالميِّ.

كما أنَّ الملاحظَ واللافتَ خلال عقدٍ وربع من الزمانِ الماضي، استطاعتْ أسماءٌ كثيرةٌ أن تكسرَ رتابةَ هذا الواقعِ وتقهرَ هذهِ الظّروفَ لتعبرَ بالتجاربِ محليًا ثمّ تحلّقُ في سماواتٍ بعيدةٍ، آخذةً مكانَها الطبيعيَّ على محافلَ شتى في مجالاتِ: الشِّعر، السَّرد، المسرح والدراما، التَّشكيل، الموسيقى، وفنونٌ أخرى، فتلكَ بوادرُ إشراقٍ تمضي في تخلّقها لتنمو وتزهرَ وتضيءَ على حقولٍ كثيرةٍ.

الحديثُ هنا عموميٌّ بلا شكٍّ، ولا شواهدَ فيه، وهو استهلالٌ لحفرٍ موسّعٍ حولَ هذا الموضوعِ بوصفه ظاهرةً مهمّةً يجدرُ الوقوف خلالَها على مجرياتِ الحركةِ الثّقافيّة والإبداعيّة في السودان، وما أسّستْ لهُ المدارسُ الإبداعيّةُ والفكريةُ وصوًلا لتكريسِ نظرةِ (التكاسل، الخمول، الحياء، الزهد)، وغيرها من تصنيفاتِ اللائمةِ التي نجدُها وضعتْ هذا المبدعَ على أُطرٍ ضيّقةٍ مختلّةِ المقاييسِ بتجاهلِ فرضيّاتِ الواقعِ المعاشِ على اختلافِ جغرافيا السودانِ المتباينةِ من حيثُ الثّقافاتُ والعاداتُ والتّقاليدُ الراسخة.

نواصل

على وعدِ الخيرِ نلتقي