التدخلات الخارجية واستدامة الحروب الأهلية: قراءة تفسيرية في الأطروحة والنموذج والدلالات بالنسبة للسودان
وزير المالية السابق ابراهيم أحمد البدوى يكتب..
لم تكن سرديات التدخل الخارجي الأحادي لصالح طرفى الحرب الأهلية في السودان يوماً سوى “سرٍّ فاضح” جرى التطبيع معه بالصمت المتواطئ، لا بالجهل. غير أنّ الحركة الإسلاموية وتوابعها في معسكر الحرب من المليشيات وجماعات “الشمولية الوظيفية”، أسقطت نهائياً أي ادّعاء بالحرص على السيادة الوطنية، فلم تعد ترى في استدعاء التدخل الخارجي “المباشر” جريمة سياسية أو خيانة أخلاقية، طالما أنه يخدم مشروع الانقلاب على ثورة ديسمبر المجيدة، ويُعيد – لاسمح الله – إنتاج نسخة جديدة من نظامهم الكليبتوقراطى المجرم: “الإنقاذ-2”. وللتاريخ، فإن هذا السقوط المدوّي ليس استثناءً ولا انحرافاً عارضاً، بل امتدادٌ عضوي لسجل طويل من الارتهان والاستقواء بالخارج. فقد شاهد الشعب السوداني مشهداً حزيناً، حين شدّ رئيس النظام البائد الرحال إلى روسيا متوسلاً “الحماية” لنظامه من القيصر الروسي. هذا المشهد المهين اختزل جوهر ذلك المشروع: سلطة بلا وطن، وسيادة تُستبدل بالاستزلام، وكرامة وطنية تُداس مقابل البقاء في الحكم.
غير أن حكّام الأمر الواقع، في ظل هذه الحرب الكارثية المصنوعة، قد أضافوا ضِغثاً على إبالة، عبر مزيدٍ من إضعاف البلاد وتدمير شعبها والنيل من لُحمته الوطنية. وإزاء هذا الواقع، دعونا – والحال كذلك – نضع “مؤقتاً” معايير السيادة والكرامة وغيرها من مقتضيات الوطنية جانباً، ونتخذ منحىً “وظيفياً”، وإن لم يكن وطنياً أو حتى أخلاقياً، لنطرح السؤال الجوهري الآتي: هل يمكن تبرير الدعوة للتدخلات الخارجية المنحازة في الحروب الأهلية من فرادى البلدان بحسبان أنها قد تؤدي إلى تقصير أمد الحروب؟
قد تبدو الإجابة بديهيةً للبعض، ولا تتطلب أكثر من استدعاء بعض تجارب الحروب الأهلية في محيطنا، من القرن الإفريقي إلى اليمن، حيث لم تُفضِ التدخلات الخارجية إلا إلى إطالة أمد الصراعات. غير أن هذه الحجة يمكن الرد عليها بالقول إن لكلٍّ من هذه الحالات خصوصياتها التي لا يجوز إسقاطها على الحالة السودانية دون تدبّرٍ وتحليل.
من هنا، أصبحت مثل هذه الأسئلة الكبرى تتطلب تقدير “الأثر الحدي” للعامل المعني – وفي هذه الحالة التدخلات الخارجية – بعد ضبط تأثيرات العوامل الأخرى ذات الصلة بتحديد قِصَر أو تطاول أمد الحرب. وبهذا المنطق، اتجهت العلوم الاجتماعية، ولا سيما علما الاقتصاد والسياسة، نحو النمذجة واستخدام سلاسل البيانات الزمنية العابرة للبلدان، بغرض تقدير واختبار الأثر الحدي للعامل المعني في تشكيل النتائج في سياق مشكلة البحث محلّ النظر- وهي، في حالتنا، قِصَر أو تطاول أمد الحروب الأهلية.
تأسيساً على ما تقدّم، تستند مقاربتي للسؤال المطروح إلى الدلائل والنتائج المستقاة من الأدبيات المحكمة حول محددات أمد الحروب الأهلية وتأثير التدخلات الخارجية في هذه الظاهرة. وسأعتمد في هذا السياق على ورقتي المنشورة باللغة الإنجليزية، الموسومة “التدخلات الخارجية وأمد الحروب الأهلية”(1)، إلى جانب بعض الأدبيات اللاحقة ذات الصلة(2).
أولاًّ: الفكرة الجوهرية للنموذج التحليلي (بصيغة مبسطة)
يقوم النموذج التحليلي الذي اعتمده فى ورقتى المذكورة على فكرة بسيطة ولكنها عميقة الدلالة: تستمر الحروب الأهلية حين يعجز أي من الطرفين عن تحقيق نصر حاسم، وحين يظل كل طرف – صواباً أو وهماً – يعتقد أن مواصلة القتال قد تحسّن موقعه التفاوضي أو العسكري. ويتعامل النموذج مع الحرب الأهلية بوصفها عملية ديناميكية مستمرة، تتحدد فيها موازين القوة العسكرية بين طرفى الحرب الأهلية بقدرة كل طرف على التجنيد، والتمويل، والحفاظ على التماسك التنظيمي والسياسي عبر الزمن. وفي هذا السياق، يكتسب التدخل الخارجي أهميته الحاسمة، لأنه يغيّر ما يمكن تسميته بـ”ميزان القدرة على الاحتمال”. فعندما يقدّم طرف خارجي دعماً عسكرياً أو مالياً أو لوجستياً لأحد أطراف النزاع، فإنه فى أغلب الأحيان سيستدعى طرف أو أطراف خارجية أخرى لتقديم دعم مماثل للطرف الآخر من قبيل الحفاظ على المصالح لهذه الأطراف. عليه، مهما كانت دوافعها، تعزز التدخلات الخارجية المنحازة من فرادى البلدان “القدرة على الاحتمال” من قبل طرفى الحرب وتقلل من الإستعداد لقبول مبادرات السلام التى تتطلب التسويات السياسية، الأمر الذى يحوّل نزاعاً كان يمكن أن يكون قصير الأمد إلى “صراع ضعفاء” متطاول و”سباق نحو القاع”، كما يحدث الآن فى هذه الحرب المشئومة.
ثانياً: البيانات الخاصة بالتدخل الخارجي
يعتمد التحليل التجريبي على قاعدة بيانات عالمية واسعة تغطي 161 دولة خلال الفترة من 1960 إلى أواخر التسعينيات، وتجمع بين خصائص الحروب الأهلية وبيانات تفصيلية حول أنماط التدخل الخارجي. ويُعرَّف التدخل الخارجي هنا بوصفه تدخلاً أحادياً، جزئياً، ومنحازاً من قبل دولة أو أكثر ، سواء أكان في صورة دعم عسكري، أو اقتصادي، أو مزيج منهما، ويُقدَّم لأىِّ من طرفى الحرب. ويحرص البحث على التمييز الصارم بين هذا النمط من التدخلات وبين العمليات متعددة الأطراف ذات الطابع الحيادي، كعمليات حفظ السلام، لما بينهما من اختلاف جوهري في الطبيعة والآثار، كما سأبين فى مقال لاحق، بإذن الله.
وتكشف البيانات عن حقائق لافتة، من أبرزها:
من أصل 138 حرباً أهلية، شهدت 89 حرباً تدخلاً خارجياً واحداً على الأقل؛
وباحتساب التدخلات المتكررة، بلغ عدد التدخلات 190 تدخلاً، كان للقوى الكبرى نصيب وافر منها؛
ولم يترافق سوى 57 تدخلاً مع نهاية فعلية للقتال؛
في المتوسط، استمرت الحروب التي شهدت تدخلاً خارجياً نحو تسع سنوات، مقابل عام ونصف فقط للحروب التي لم تشهد أي تدخل.
وتشير هذه المؤشرات الوصفية، بوضوح، إلى ارتباط وثيق بين التدخل الخارجي وطول أمد الصراع، وهو ما يمهد للتحليل القياسي الأكثر صرامة، كما سنعرض له أدناه.
ثالثاًً: النتائج التجريبية الرئيسة
يعتمد البحث نموذجين مترابطين: الأول لتفسير احتمال حدوث التدخل الخارجي، والثاني لتفسير مدة استمرار الحرب الأهلية.
1. محددات التدخل الخارجي: تبيّن النتائج أن التدخل الخارجي ليس عشوائياً، بل استجابة استراتيجية محسوبة لخصائص النزاع. فمثلاً،يصبح التدخل الخارجى أكثر احتمالاً عندما تكون الحروب أشد دموية وكلفة بشرية والنزاعات قائمة بالفعل ولم تُحسم سريعاً. وكلا العاملين للأسف يفسران لماذا يحدث التدخل الأجنبى الأحادى فى الحرب الأهلية السودانية. فهذه الحرب هى فى الواقع بمثابة حرب بين جيشين داخل حدود دولة واحدة. تعتبر هذه الحرب غير مسبوقةٍ من حيث شدة العنف وحجم الموت والدمار الذى تسببت به، ناهيك عن الأزمة الإنسانية الهائلة التي خلفتها، حيث تماثل القوة التدميرية للطرفين حالة حرب الدول وليس حالة الحروب الأهلية التقليدية التي عادة ما تدور في مناطق ريفية نائية وتستخدم فيها آلة حربية أقل فتكاً وتطوراً. في المقابل، يقل احتمال التدخل عندما تكون الحروب ذات طابع إثني صريح أو عندما تكون الدول الأقليمية المحيطة أكثر رسوخاً من حيث الممارسات الديمقراطية. بالرغم من أن حرب السودان بدأت كحرب عسكرية فصائلية إلا أنها قد تحولت تدريجياً إلى حرب هوياتية، إلا أنها ليست حرباً إثنية صريحة. كذلك، تدور هذه الحرب فى بيئة إقليمية لا تتسم بالممارسة الديمقراطية الراسخة، الأمر الذى يدعم إحتمالية التدخلات الخارجية.
2. أثر التدخل على مدة الحرب: عند إدخال الاحتمال المتوقع للتدخل الخارجي في نموذج مدة الحرب، تبرز نتائج حاسمة، تدعم في مجموعها، التنبؤات النظرية للنموذج بصورة قوية:
للتدخل الخارجي المتوقع أثر قوي و”متين إحصائياً” على إطالة أمد الحرب؛
الاستقطاب الإثني يؤدى إلى إطالة أمد الحروب مقارنة بحالة الحروب الأهلية الأيدلوجية، غير الهوياتية؛
تميل الحروب الإثنية إلى الاستمرار مدة أطول، لكن التدخل الخارجي قادر على إنتاج حروب طويلة حتى خارج السياقات الإثنية.
رابعاًً: العبر والدلالات بالنسبة للسودان
تكمُن الإضافة الجوهرية للأدبيات التى بنينا عليها التحليل أعلاه في إعادة تأطير التدخل الخارجي، لا بوصفه أداة حيادية لإحلال السلام، بل باعتباره عاملاً استراتيجياً يعيد تشكيل الحوافز وتوازنات الصراع. فبدلاً من تقليص العنف، كثيراً ما تؤدي التدخلات الجزئية والمنحازة إلى ترسيخه، عبر خفض كلفة القتال وإدامة حالات الجمود العسكري والسياسي. وتحمل هذه النتيجة دلالات سياسية عميقة، إذ تحذّر من أن التدخلات الأحادية من فرادى البلدان تسهم في إطالة أمد العنف، وتؤكد ضرورة التمييز الصارم بين التدخلات المنحازة وعمليات السلام متعددة الأطراف، كما تنبّه إلى مخاطر إرجاع الحروب الأهلية الطويلة إلى العوامل المحلية وحدها، مع إغفال الدور البنيوي الفاعل للبيئة الإقليمية والدولية.
وتكتسب هذه النتائج أهمية خاصة عند إسقاطها على السودان، حيث نادراً ما ظل نزاع أهلي بمنأى عن تدخلات خارجية متشابكة. فتاريخ السودان الحديث – من الحرب الأهلية الأولى، إلى الثانية، مروراً بدارفور، وصولاً إلى الحرب الراهنة – يبرهن أن التدخل الخارجي كان عاملاً بنيوياً في إطالة الصراعات، لا مجرد استجابة ظرفية لها. ويبيّن هذا الإطار التحليلي أن إنهاء الحروب في السودان يتطلب، إلى جانب التسوية الوطنية الشاملة، ترتيباً إقليمياً ودولياً واعياً يحدّ من التدخلات المنحازة، ويعيد توجيه أدوار الفاعلين الخارجيين نحو دعم السلام المستدام لا إدارة الصراع.
وفي هذا السياق، تبرز دعوة صريحة إلى دول جوار السودان، وإلى محيطه الإقليمي العربي-الأفريقى والإسلامي، مفادها أن مصالحها الاقتصادية والسياسية المشروعة لا يمكن أن تنهض أو تُصان بصورة مستدامة إلا في ظل نظام سياسي مدني ديمقراطي، مفوَّض شعبياً، وقادر على قيادة تحولات تنموية حقيقية – لا سيما في الزراعة؛ وساحل البحر الأحمر؛ وشبكات الطرق والسكك الحديد العابر لجوار السودان – تؤسس لشراكات استراتيجية مثمرة ومتوازنة مع هذه الدول، قائمة على الاستقرار، والتنمية، وتكامل المصالح، لا على اقتصاد الحرب والارتهان.
وبالمقابل، فإن على كافة النُخب السودانية، خاصة القوى المدنية الديمقراطية، واجباً سياسياً لا يقل أهمية، يتمثل في السعي المنهجي والمنفتح إلى طمأنة هذه الدول بأن السودان المدني الديمقراطي لا يتجاهل مصالحها المشروعة ولا يعاديها، بل يتفهمها ويحرص على رعايتها في إطار دولة سودانية قوية، ذات سيادة، تُدار فيها هذه المصالح ضمن المصلحة الوطنية العليا، وبمؤسسات شرعية وشفافة – لا على سبيل المقايضة والانتهازية التي تنتهجها سلطة الأمر الواقع المليشياوية – العسكرية في سياق هذه الحرب.
وعليه، فإن السلام في السودان ليس شأناً داخلياً محضاً، بل مسألة سياسية إقليمية ودولية بامتياز. غير أن هذا السلام لن يُبنى عبر صفقات قصيرة النظر أو تدخلات منحازة، بل عبر توافق وطني مدني، مسنود بإرادة إقليمية ودولية تعي أن السودان المستقر والديمقراطي هو، في نهاية المطاف، الضامن الأوثق لمصالح الجميع.
————————–
أنظر ورقتى باللغة الإنجليزية، الموسومة “التدخلات الخارجية وأمد الحروب الأهلية”: file:///C:/Users/Dr.Ibrahim/Downloads/ssrn-632504%20(2).pdf
أنظر أيضاً:
Sofia E. Mouritsen. 2020. “External Intervention and the Duration of Civil Wars”: https://cupola.gettysburg.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1874&context=student_scholarship
Sang Ki Kim. 2012. “Third-party intervention in civil wars: motivation, war outcomes, and post-war development”: http://iro.uiowa.edu/esploro/outputs/doctoral/Third-party-int24ervention-in-civil-wars-motivation/9983776973302771
