“دنيا”، يقرع ناقوس خطر ذوبان الدولة؟!
الجميل الفاضل يكتب:
خلال هذا الأسبوع فغر السودانيون أفواههم دهشة، لقول إبراهيم عبد الله “دنيا”، رئيس حركة تحرير شرق السودان، من داخل مناطق سيطرة الجيش، أن قواته لن تنخرط في حرب لم تكن طرفاً في إشعالها، مشدداً على تمسك حركته بخيار السلام والوحدة، وضرورة إشراك إقليم الشرق في صنع القرار الوطني.
مبينا أن قواته جرى تدريبها لحماية الإقليم وموارده وتمكين أهله من حكم أنفسهم.
مشيرا إلى أن حركته هذه جزء من تحالف أوسع يضم خمسة حركات شرقاوية أخري.
معلنا رفضه لأي مشاريع تسعي لتقسيم البلاد، مشيرا علي وجه الخصوص لما يُعرف بمشروع دولة “النهر والبحر”، ملوحاً بإمكانية انفصال شرق السودان في حال أصبح مشروع كهذا واقعاً مفروضاً.
بل شدد “دنيا” على أن تنفيذ مبادرة الرباعية التي أعلن البرهان بتركيا رفضه لها، يمثل ضرورة عاجلة لإنهاء معاناة الشعب السوداني ووضع حد لهذه الحرب.
ورغم صحة وسلامة موقف “دنيا” علي صعيد النظر، إلا أن خطابه قد عكس حقيقة توقّعها المفكر د. منصور خالد قبل رحيله بقوله:
“إن وضعنا نُصب أعيننا تجربة انفصال الجنوب، واستعار الحروب في الغرب والوسط، لأدركنا أن تراكم هذا الفشل سيقود حتمًا إلى واحد من شيئين: الأول هو الحساسية من النجاح، والثاني هو ذوبان الدولة.”
محذّرًا في الوقت ذاته من أن كلا الداءين سيسيران بنا – لا محالة – في طريق طُراد نحو الهاوية.
وبالقطع، فإن ما نرصده من تصدّعات داخل البنية العسكرية والسياسية والاجتماعية، يوحي بأننا قد اقتربنا في هذه اللحظة من قاع الهاوية، ومن حالة ذوبان الدولة الكامل، الذي تتحمل وزره التاريخي بكل تأكيد الحركة الإسلامية السودانية.
فقد بدأت اليوم عمليا بالتلاشى حتي مظاهر سلطة “الإخوان المسلمين” المركزية الزائفة، تبعًا لتداعيات الحرب في هذا الواقع المشتبك والمعقد للغاية، مفسحةً الطريق لقيام مجتمعات أمنية جديدة على أنقاض دولة تبدو آيلة للسقوط التام.
وبطبيعة الحال، فإن أي تصدّع أو انهيار أو ذوبان للدولة سيجرّ، بعد السقوط والتلاشي، إلى تفكك في التحالفات القائمة، ولتبدُّل كبير في خارطة الولاءات الحالية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سيقود فشل وإنهيار هذه الدولة المؤدلجة التي ركبتها الحركة الإسلامية علي فرع الدولة الوطنية في العام 1998، إلى تشظٍّ هوياتي أوسع بحيث تلجأ جماعات هذا المركز الوهمي، المتناقضة مصلحيًا فيما بينها ومع غيرها، إلى الجهة أو القبيلة أو العِرق كملاذ أمني أخير؟
لتنشأ من ثمّ مجموعة من الوحدات الهوياتية التي تتفاعل على مستويات متعددة من الأمن: العسكري، والسياسي، والاقتصادي، والمجتمعي.
وقد تظهر في العادة مثل هذه الوحدات، عند انهيار هياكل الدول ومؤسساتها، في شكل “وحدات صغيرة” تنخرط في علاقات أمنية تتجاوز الدولة، وقد تتعدى حدود السيادة نفسها، علي قرار العلاقات المتداخلة حاليا بين حركات الشرق الجديدة وأسمرا.
فمثل هذه الكيانات، التي كانت مكبوتة داخل بنية الدولة الصلبة، ستسعى في مرحلة لاحقة إلى تأمين نفسها أولًا، لا عبر الدولة أو في إطارها، بل من خلالها وضدها في آنٍ معًا، كما عبر عن ذلك بوضوح خطاب قائد حركة تحرير شرق السودان الأخير.
وهنا يظهر نموذج “الهويات كمصادر للأمن”؛ إذ قد تصبح ميليشيات القبائل والمناطق القائمة اليوم — مثل “مشتركة”، و”كيكل”، ومقاومات شعبية مناطقية مختلفة، تقدر الي يومنا هذا بأكثر من مائة مليشيا — المصدرَ الوحيد لاحقًا للشعور بالأمن والحماية في نطاق الانتماءات الخاصة بتلك المكونات.
وها نحن نعيش مرحلة ربما أصبح فيها الأمن قضية تُدار بين وكلاء يعملون “تحت الدولة” إسميا، وخارج منظومة القيادة والسيطرة فعليا؛ لا أحد فيهم يحرص على العمل للحفاظ على الدولة ذاتها، بل يسعى لاحتكار العنف ضمن فضاء معين من الفوضى.
وبالضرورة، فإن سلطة بورتسودان، التي مارست إفلاتًا — ربما متعمدًا — لهذا العقال، لم تعد اليوم صانع الحدث حتي في مناطق سيطرتها، التي يتجرأ من داخلها رجل يمهل قادتها 72 ساعة لمغادرة عاصمتهم الإدارية، بورتسودان.
المهم فقد أضحت البلاد بالفعل، مجالًا لإعادة تعريف ما تعنيه الدولة، وما يُعبر عنه بالسيادة، والأمن، والحدود.
هذا الكيان الهلامي الذي باتت تعبر عنه جماعات بدأت تطل برأسها من تحت ركام الدولة المنهارة، كأجزاء في “كنتونات صغيرة”، يرشحها الحال الماثل حتى للذوبان الكامل هي ومناطق تحت قبضتها، في غيرها من دول مجاورة أخري.
تقف علي رأسهما بالطبع، الجارتان المنخرطتان بقوة وبشهية مفتوحة، في حرب السودان الأهلية، “إريتريا ومصر”.
