هل يستطيع الدعم السريع الهروب من ماضيه لصناعة المستقبل؟

محمد الأمين عبد النبي يكتب..

يأتي هذا المقال ضمن سلسلة مقالات تسعى إلى تفكيك أزمات الدولة السودانية من جذورها، بدأت بفخ القبلية، مروراً بدور المجتمع المدني ومأزق الإسلامويين، وستتناول بإذن الله الإصلاح العسكري والأمني، وواقع ومستقبل الأحزاب، والنقابات، والكيانات الدينية، وصولاً إلى الأسئلة الجوهرية المتعلقة بطبيعة الدولة ونظام الحكم والعدالة الانتقالية والوحدة الوطنية. وفي هذا السياق، يناقش هذا المقال موقع الدعم السريع في معادلة الصراع، واليوم التالي، ومستقبل السودان.

جذور ظاهرة الدعم السريع:

تتبدّى قوات الدعم السريع كظاهرة اجتماعية – عسكرية ناتجة عن تقاطع البنية الثقافية للمجتمعات الرعوية مع عجز الدولة عن بسط هيمنتها الوظيفية، في ظل التخريب المتعمد الذي خلّفه نظام الإنقاذ في الأطراف، بتحويل الآليات الدفاعية التقليدية مثل “الفزع” و”النفير” من قيم تكافلية للبقاء إلى مؤسسات عسكرية موازية. لقد قام نظام الإنقاذ بتعهيد أمنه لهذا المخزون الثقافي بدلاً من تحديثه، مما أدى إلى تحويل صلابة الريف وقدرته على التكيف إلى قوة خشنة تجاوزت دورها المحيطي، لتصبح تعبيراً عن لحظة انفجار تاريخي يسعى فيها الهامش المستنفر لإعادة صياغة علاقته بالمركز، مستخدماً ذات الأدوات التي استغلها نظام الإنقاذ لحماية نفسه.

ففي خضم الحروب الأهلية، عمد نظام الإنقاذ إلى استدعاء هذا المخزون لسد الفجوة اللوجستية والقتالية عبر نماذج (القوات الصديقة، والدفاع الشعبي، والجنجويد، ولاحقاً الدعم السريع)، مما أدى إلى خلق ازدواجية في الهوية العسكرية؛ حيث يقاتل الفرد بوازع الفزع الأهلي تحت غطاء الشرعية الرسمية. هذه الاستراتيجية، التي انتهجها النظام منذ عقود، أدت في المحصلة إلى تحويل القوات المسلحة من أداة قومية مركزية إلى وحدات دفاعية ترتبط بالنظام برابط مصلحي، وهو ما مهّد الطريق تاريخياً لتحول هذه التشكيلات من ظهير مساند إلى بديل بنيوي يمتلك شرعية الأرض وسلطة البندقية.

وبالتالي، لم يكن الدعم السريع نبتة شيطانية نمت في فراغ، بل كان الثمرة الأكثر مرارة لمشروع التمكين؛ فقد قام الإسلامويون بإنتاج هذا الكيان الموازي، وتمليكه السلاح والشرعية والمال، ظناً منهم أنه سيظل حارساً وفياً. غير أن الحاضر كشف عن انقلاب السحر على الساحر؛ حيث تحوّل الدعم السريع من أداة قمع بيد التنظيم إلى قوة وجودية تسعى لابتلاع الدولة.

في تشريحه للعلاقة التأسيسية بين نظام البشير ونواة الدعم السريع، يذهب الدكتور عبد الله علي إبراهيم إلى أبعد من التوصيفات السطحية التي تحصر الظاهرة في الارتزاق أو العمالة، واصفاً إياها بأنها كانت “تحالفاً” (راجع كتاب جنجويد وحاكورة)، حيث مُنح بموجبه الدعم السريع تفويضاً سياسياً ومكانة داخل أجهزة السلطة مقابل سحق التمرد في دارفور. إن هذا التحالف هو الذي سمح للدعم السريع أن يرى في بقاء النظام بقاء لمكاسبه الطبقية والاجتماعية الجديدة. وعليه، يتحمل نظام الانقاذ المسؤولية التاريخية والأخلاقية الكاملة عن هذه الخطيئة.

تطور الدعم السريع:
يُمثل الدعم السريع التجسيد الأخطر لما أسماه الدكتور حسن حاج علي بـ”النظام العسكري الهجين”، حيث تعمّد نظام الإنقاذ هندسة هذا الكيان ووضعه قصداً في منطقة رمادية، لا هو بالمؤسسة العسكرية المنضبطة ولا هو بالسيولة المطلقة. هذا التموضع تم وفق استراتيجية واعية لامتلاك قوة تضرب بيد الدولة الرسمية وتبطش بروح المليشيا المنفلتة، بعيداً عن ضوابط المحاسبة القانونية أو العقيدة الوطنية للقوات المسلحة، مما سمح له بالتمدد داخل أجهزة الدولة. حيث اوكلت له مهام خارج حدود الوطن، مثل المشاركة في “عملية الخرطوم” التي تهدف إلى التعاون بين الدول الواقعة على طريق الهجرة بين القرن الأفريقي وأوروبا للتصدي لعمليات الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، إضافة إلى القتال في اليمن إلى جانب قوات التحالف.

عدّد الدكتور حسن حاج علي مراحل تطور الدعم السريع في أربع مراحل: المرحلة الأولى: الجنجويد، واتسمت بالسيولة التنظيمية وارتبطت بالحكومة بصورة غير رسمية. المرحلة الثانية: خلال النصف الثاني من عام 2007، لتصبح قوات حرس الحدود، التي أُنشئت بواسطة القوات المسلحة ولم تُدمج فيها.
وفي عام 2013، أُطلق عليها اسم قوات الدعم السريع، مع تغيير وجهة عملها وعلاقتها بالنظام، وأُلحقت بجهاز الأمن والمخابرات. المرحلة الثالثة: تطورت في عام 2017 بتقنين وضعها بقانون أصدره المجلس الوطني، جعلها تابعة للقوات المسلحة، مما منحها شرعية مؤسسية وحوّلها إلى قوة عسكرية رسمية. المرحلة الرابعة: إبان انتفاضة ديسمبر 2018، حيث استُدعيت إلى الخرطوم لحماية النظام، وأصبح قائد الدعم السريع نائباً لرئيس المجلس العسكري، وهو تطور سياسي وعسكري لافت. لاحقاً، مُنحت استقلالية بموجب تعديلين على قانون قوات الدعم السريع؛ تعديل 11 يوليو 2019 الذي نقل تبعيتها من رئاسة الجمهورية إلى القائد العام للقوات المسلحة، ثم تعديل 30 يوليو 2019 الذي ألغى المادة (5) التي تُخضع الدعم السريع لقانون القوات المسلحة في حالة الطوارئ والحرب، وتنص على جواز دمجها في القوات المسلحة وفق الدستور والقانون، وبذلك أصبحت ذات استقلالية تامة، علماً بأن هذا الوضع سبق التوقيع على الوثيقة الدستورية (للمزيد، راجع دراسة الهجنة العسكرية في السودان وتحديات إصلاح القطاع العسكري للدكتور حسن حاج علي).

الوعي بخطورة الدعم السريع:
استشرف الإمام الصادق المهدي مبكراً الخطر الوجودي للدعم السريع، متجاوزاً التحليل العابر إلى التوصيف البنيوي، حيث دفع ثمن شجاعته اعتقالاً في عام 2014 حين وصفها بأنها “قوات غير دستورية تفتقر للمهنية القومية”، محذراً من أن وجودها يمثل بداية لتفكك الدولة السودانية بفعل سياسة تعدد الجيوش وخصخصة العنف؛ وهي الرؤية التي تحققت حرفياً في صراع “توازن الرعب” الحالي. وعقب فترة وجيزة من اعتقال الإمام الصادق المهدي، أطلق الأستاذ إبراهيم الشيخ تصريحات في ندوة بمدينة النهود انتقد فيها الدعم السريع، ووصفها بأنها “مجموعات غير نظامية ومرتزقة تفتقر لأي عقيدة وطنية، وتعمل كأداة قمعية لصالح النظام لا لصالح الشعب”، فتم اعتقاله ونقله إلى سجن الأبيض. إن ما وصفه المهدي والشيخ قبل عقد من الزمان لم يكن معارضة سياسية، بل قراءة دقيقة لانهيار مفهوم “احتكار الدولة للعنف” لصالح إمبراطوريات السلاح والمال.

من الناحية التاريخية والسياسية، لم يكن للمكوّن المدني والحكومة الانتقالية دور في صناعة أو تضخيم الدعم السريع؛ فهذه القوات لم تكن نتاجاً لثورة ديسمبر، بل كانت تركةً ملغومة ورثتها الفترة الانتقالية من نظام التمكين الذي منحها الوجود القانوني والقوة المالية قبل سقوط البشير بسنوات. إن محاولات القوى المدنية للتعامل مع الدعم السريع لم تكن لتقويته، بل محاولة اضطرارية لإدارة واقع أمني معقّد؛ فقد وجدت الحكومة الانتقالية نفسها أمام دولة موازية مكتملة الأركان، تمتلك قانوناً مُجازاً وموارد اقتصادية مستقلة. لذا فإن تحميل المدنيين مسؤولية تضخيمه هو قلبٌ للحقائق؛ فالتضخم الحقيقي حدث في كنف نظام التمكين وبمباركة القوات المسلحة. أما المكوّن المدني، فقد كان يسعى لتحويله إلى قوة نظامية تحت إمرة الدولة، وهو المسار الذي تم الانقلاب عليه من قبل القوات المسلحة والدعم السريع معاً في 25 أكتوبر 2021. وقد كان متوقعاً فشل الانقلاب، باعتبار أن طرفي النزاع يمثلان ما وصفه الأستاذ الحاج وراق بـ”انقلاب برأسين”. لقد تحققت نبوءة وراق حين أكد أن هذا الانقلاب “سينفجر من داخله”، مشيراً إلى أن محاولة استكماله ستؤدي إلى انقلاب آخر، لأن المشروع لم يكن وطنياً، بل استند إلى قاعدة الإسلامويين الساعين لتصفية ثاراتهم الشخصية عبر استغلال أجهزة الدولة. وسرعان ما انفجر الصراع بين مكوّناته ليحوّل الوطن إلى ساحة حرب عبثية.

لقد مثّل الاتفاق الإطاري المحاولة الأكثر عقلانية لتفكيك عُرى النظام الهجين ووضع السودان على قضبان التحول الديمقراطي، حيث طرح لأول مرة خريطة طريق واضحة لإنهاء ظاهرة تعدد الجيوش. ومع ذلك، تركز الخلاف التقني حول المدى الزمني للدمج وتبعية القيادة؛ وهي تباينات كان يمكن تجاوزها بالحوار، لولا تدخل الإسلامويين الذين استشعروا أن نجاح هذا المسار يعني تصفية نفوذهم التاريخي داخل أجهزة الدولة. فبدلاً من دعم الحلول التفاوضية، سارعوا إلى استعجال خيار الحرب واستغلال تلك الخلافات كذريعة لخلط الأوراق وقطع الطريق أمام التغيير، محوّلين الخلاف حول الإصلاح العسكري إلى حرب شاملة لوأد ثورة ديسمبر واستعادة سلطتهم المفقودة.

ما بعد الحرب، اتخذت القوى المدنية موقفاً رافضاً للاصطفاف خلف أي من طرفي النزاع، وكان هذا الموقف انحيازاً مبدئياً لكيان الدولة. فبينما كان الطرفان يتبادلان تهم الخيانة، اختارت القوى المدنية مساراً عقلانياً يرفض شرعنة الحرب كأداة للوصول إلى السلطة. وفي هذا الإطار، فإن تواصل القوى المدنية مع الدعم السريع لم يكن للتحالف معه، بل لانتزاع التزامات بحماية المدنيين، وفتح الممرات الإنسانية، والضغط من أجل العودة إلى طاولة التفاوض؛ انطلاقاً من قناعة راسخة بأن الحسم العسكري وهمٌ سيقود حتماً إلى تقسيم البلاد وتفتيتها.

وفي السياق ذاته، مثّل كل من اتفاق جدة وإعلان مبادئ المنامة فرصة لبناء جيش واحد؛ فبينما أظهرت كواليس تلك التفاهمات أن الدعم السريع قد بدأ التخلص من عبء الإسلامويين الذين صنعوه، ظل العائق الأكبر هو عجز المؤسسة العسكرية عن اتخاذ خطوة مماثلة. إذ تكمن المعضلة في تحرر القوات المسلحة من سطوة كوادر الإسلامويين التي تسيطر على قرارها وتدفعها نحو استمرار الحرب.

الانتهاكات.. مأزق الدعم السريع:
تمثل انتهاكات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب عبئاً أخلاقياً وقانونياً بالغ الخطورة، إذ تشير تقارير منظمات دولية وأممية إلى نمط واسع ومتكرر من الجرائم التي تنوعت جغرافياً في شكلها وعمقها. ففي الخرطوم والمدن الكبرى، ارتبطت الانتهاكات باحتلال منازل المدنيين ونهب الممتلكات العامة والخاصة، بينما اتخذت في دارفور طابعاً إثنياً منظماً شمل القتل الجماعي، واستهداف القيادات الأهلية، وتهجير مكوّنات سكانية بعينها، والتعذيب، والعنف الجنسي، وهي أفعال ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد أحدثت هذه الانتهاكات شرخاً اجتماعياً واسعاً، ما يجعل أي محاولة لتسويق الدعم السريع كشريك في التحول المدني تصطدم بواقع ميداني موثّق. وعليه، فإن التحقيق الدولي الشفاف والمحاسبة الجادة يمثلان شرطاً ضرورياً للعدالة الانتقالية، ولمنع الإفلات من العقاب، وأساساً لا غنى عنه لأي سلام مستدام.

الدعم السريع وخطيئة الحكومة الموازية:
تمثل محاولة تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع تحولاً جذرياً وخطوة تهدف إلى فرض النموذج الليبي. وتكمن خطورتها في تفتيت وحدة السودان وتحويل النزاع إلى صراع بين “حكومتين وجيشين”. لقد وفر تحالف “تأسيس” للدعم السريع غطاءً سياسياً وسردياً، حيث يتم تسويقه على أنه شريك في التحول الديمقراطي، وفرصة لغسل انتهاكاته عبر خطاب مدني. ويؤدي ذلك بالضرورة إلى إضعاف القوى المدنية بجعلها رهينة للسلاح. وتكمن الخطورة القصوى في استغلال الدعم السريع للمظالم التنموية وتحويلها إلى أيديولوجيا قتالية تحت غطاء سياسي. هذا التحالف دفع في اتجاه ارتماء اضطراري في أحضان مشروع الإسلامويين، مما حوّل الصراع من خلاف سياسي إلى حرب هوياتية.

سردية الدعم السريع للحرب:
تقوم سردية الدعم السريع على ادعاءات متداخلة تُقدّم الحرب بوصفها مواجهة مع الفلول، ودفاعاً عن الهامش والديمقراطية، واسترداداً للحقوق. غير أن تفكيك هذه السرديات يكشف تناقضاً بنيوياً عميقاً؛ فالدعم السريع نشأ كأداة أصيلة في نظام البشير وكان جزءاً من بنيته الأمنية، ما يجعل تصوير الصراع كفعل ثوري مغالطة تاريخية تُخفي حقيقة أنه صراع على مركز القرار. كما أن توظيف مظالم التهميش والتنمية غير المتوازنة يحوّل قضية حقوقية مدنية إلى وقود لحرب هوياتية، خاصة في ظل ممارسات ميدانية قامت على الفرز الإثني لا على مبدأ المواطنة. ويزداد التناقض حدة مع ادعاء حماية الديمقراطية، إذ لا ديمقراطية ممكنة بوجود جيوش موازية، ولا مدنية تُبنى على وصاية السلاح. أما سردية المظلومية، فتمثل بدورها انزلاقاً خطيراً يحوّل أزمات الموارد من قضايا تُعالج بسياسات الدولة والعدالة الاجتماعية إلى مبرر للعنف، بما يقوض العقد الاجتماعي ويستبدل منطق الدولة بمنطق الغلبة. ويظل ادعاء خوض حرب تحرير ضد ما يُعرف بـ”دولة 56″ خطاباً يفتقر إلى الجدية، ولا يجد آذاناً صاغية لا لدى الفئات التي نشأت داخل تلك الدولة وتمتعت فعلياً بامتيازاتها، ولا لدى القوى المدنية التي تناضل من أجل إصلاحها. فالدعم السريع لا يمتلك التأهيل الفكري أو السياسي الذي يؤهله لطرح مشروع وطني بحجم إعادة تأسيس السودان. وبناءً على ذلك، لا يقدّم خطاب الدعم السريع أكثر من إعادة تدوير شعارات راديكالية بلا مضمون، وهي شعارات لا تُغني عن تحميله المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن الفظائع والانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت بحق المدنيين.

نسق تعدد الجيوش.. التحدي الأكبر:
تُعد ظاهرة الدعم السريع النموذج الصارخ لخطورة تعدد الجيوش التي تتمتع باستقلالية القرار والارتباط بمحاور أجنبية، مما حوّلها من قوة نظامية شكلاً إلى ما يشبه الشركات الأمنية الخاصة جوهراً بحكم تركيبتها. ولا تتوقف هذه المعضلة عند الدعم السريع فحسب، بل تمتد لتشمل الحركات المسلحة القائمة والمليشيات التي وُلدت من رحم الحرب وخطيئة الاستنفار، حيث تحولت هذه الكيانات إلى مراكز قوى هجينة تقتات على سيولة الدولة. كما لا يمكن قراءة ظاهرة الدعم السريع بعيداً عن سياق التنمية غير المتوازنة، وهو ما يفسر استلافه خطاب الهامش والمركز. وتؤكد تجربة الدعم السريع وتناسل المليشيات حجم التعقيد والتحدي في استعادة الدولة من الاختطاف الأيديولوجي والتجييش الموازي.

لقد أثبتت تجربة الحرب أن تعدد الجيوش وصفة للتقسيم والتشظي، وأن دمج الدعم السريع ليس إجراءً فنياً، بل ضرورة وجودية لكيان الدولة. غير أن التحدي يكمن في كيفية الدمج؛ فالحجم العسكري والسياسي الذي اكتسبه هذا الكيان يجعل من الدمج القسري أمراً صعباً، ومن التسريح الكلي مخاطرة أمنية. فلا استقرار إلا بالفصل بين حمل السلاح وممارسة السياسة، وتحرير عقل الدولة من إرث النظام المباد، وترسيخ مفهوم أن السلاح وظيفة حصرية للجيش الوطني، لا تُمنح بناءً على الاستنفار أو الانتماء الإثني.

موقف إيجابي يحتاج خطوات ملموسة:
يُعد قبول الدعم السريع بالهدنة فرصة ينبغي التعامل معها بما يمنع تحويلها إلى استراحة محارب، وحصرها في بعدها الإنساني والأمني، من فتح الممرات الإنسانية وحماية المدنيين. كما يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي لأي تفاوض هو إنهاء ظاهرة تعدد الجيوش عبر جدول زمني واضح للدمج والتسريح، وبناء جيش وطني واحد. ولا يمكن اختبار صدقية النوايا إلا بخطوات ملموسة، تشمل السماح بالتحقيق الدولي في الانتهاكات، مع رفض أي مقايضة بين السلام والعدالة. وينبغي أن يتجاوز مسار السلام التسوية الثنائية إلى معالجة الجذور الاجتماعية والاقتصادية للصراع عبر التزامات تنموية حقيقية.

مستقبل الدعم السريع:
إن التعامل مع الدعم السريع كأمر واقع لا يعني قبوله كمستقبل دائم. فلن يتعافى الوطن إلا بإنهاء ظاهرة تعدد الجيوش. وفي المقابل، لا يمكن قراءة ظاهرة الدعم السريع بمعزل عن الطرف الآخر في المعادلة، وهو القوات المسلحة التي تعاني من إشكالات جعلت منها بيئة حاضنة للمتناقضات؛ وبالتالي فإن أي تفكير في حلول قابلة للتطبيق لا بد أن يأخذ هذه الحقائق على مرارتها في الاعتبار.

يرتهن مستقبل الدعم السريع بمدى قدرته على تجاوز أزمة هويته الراهنة عبر ثلاثة محددات: أولها قدرته على السيطرة على قواته، ووقف انتهاكاته المتكررة، وحماية المدنيين، وتسهيل المساعدات، وإدارة الموارد بصورة رشيدة في مناطق سيطرته. وثانيها الاستعداد للتعاون من أجل إنهاء حدة الاستقطاب مع القوات المسلحة، والالتزام بالمسار التفاوضي. وثالثها، مأزق المقبولية؛ أي استحالة التوفيق بين طبيعته الإثنية وحاجته إلى غطاء مدني، وهو تناقض يجعل تحوله إلى لاعب يصطدم بصلابة الرفض الشعبي.

يمثل الدعم السريع صعوداً للهامش الذي يستخدم البندقية لتحقيق المطالب، لكن استمراره بهذه الوضعية يواجه استعصاءً تاريخياً؛ فهو يفرض وجوده بالحرب، لكنه يفتقر إلى أي أفق في زمن السلام. إن عبوره إلى المستقبل يبدأ بفك الارتباط بين أخذ الحقوق بالعنف وانتهاك حقوق الآخرين، وينتهي بتحويل الولاء من القبيلة إلى الدولة. فأي محاولة لشراء الاستقرار عبر وجود جيش موازي هي وصفة مؤجلة لتقسيم البلاد.

وبناءً على هذه المعطيات، تتلخص مسارات مستقبله في ثلاثة سيناريوهات: أولها، سيناريو بناء الجيش المهني الواحد، وهو المخرج الاستراتيجي الوحيد عبر إصلاح أمني وعسكري شامل، يقضي بدمج المقاتلين، وتفكيك الهياكل، وبناء جيش مهني قومي واحد. ثانيها، سيناريو الإصرار على موقفه وتكثيف عملياته لابتلاع الدولة، واستغلال الوضع الميداني للطرف الآخر للتقدم في بقية مناطق البلاد، مما يحوّل الحرب إلى فوضى شاملة وتهديد إقليمي ودولي. ثالثها، سيناريو التقسيم، وهو فرض واقع دولتين بجيشين، مسارٌ يغتال وحدة السودان ويؤسس لدورات عنف مستمرة، ويؤكد أن التضحية بوحدة البلاد لن تجلب سلاماً مستداماً.
قال ابن الرومي:
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى مستقيم وأعوج.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.