
«لا تقيدوا الحب بقيود الفقد»… دعوة فرح سودانية تتحول إلى بيان وجداني ضد الحرب
في زمن صادرت فيه الحرب السودانية المعنى البسيط للفرح، وبدلت طقوس الزواج من احتفال جماعي إلى فعل نجاة، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي دعوة زفاف غير مألوفة، خرجت من قوالب المجاملة التقليدية إلى مساحة الأدب والفلسفة والوجدان الجمعي. دعوة لم تُكتب لتُقرأ مرة واحدة، بل لتُتداول، وتُبكي، وتُعيد تعريف معنى أن نفرح بينما الخراب يقيم بيننا. هكذا تحولت رسالة فرح عائلية إلى نصً عام، يمس جراح السودانيين في المنافي وبلدان اللجوء ومدن النزوح، ويقترح الحب بوصفه آخر أشكال المقاومة.
دعوة فرح… حين يصبح الزواج موقفاً وجودياً
لم تكن الدعوة مجرد إعلان عن عقد قران، بل بياناً وجدانياً مكتوباً بلغة تتقاطع فيها الشعرية مع الحكمة، والحميمية مع الفقد الجماعي. في سياق سوداني مثقل بالحرب، حيث صار الموت خبراً يومياً، بدت هذه الدعوة كفعل تمرد هادئ على منطق الانكسار.
اللافت في النص أنه لا يتجاهل الحزن، بل يمر عبره، يعترف به، ثم يحوله إلى طاقة رمزية. كأن الفرح هنا ليس نقيض الألم، بل امتداداً له، أو محاولة لترويضه. وهو ما يفسر الانتشار الواسع للدعوة في الأوساط السودانية على منصات التواصل، حيث وجد فيها كثيرون مرآة لمشاعرهم المعلقة بين ما فُقد وما يُرجى.
النص الذي أشعل التداول (نص الدعوة)
بين حنين الذكريات المثقلة بأحزان خرافية وبين نبض القلب المتطلع نحو فرح جديد نرفع شمعة في عتمة الزمن الحربي العبثي…
المشاعر تتدافع فينا…
كأن أرواح الأصدقاء والأهل الغائبين
ترسل من عالم الغياب نداءً صوفيّاً:
“لا تقيدوا الحب بقيود الفقد…
فالحياة تواصل دورانها حول محور الأمل.”
الحرب العبثيّة التي نعيش تحت ظلها
جعلت من كل لقاء معجزة ومن كل فرح تمرّداً على منطق الموت.
فاليوم نحن لا نحتفل بعقد قران فحسب
بل ننصب خيمة للوجود وسط صحراءِ الخراب وسلطة الفراغ.
يا ابنتنا شمس أمير موسى التي ولدتها عواطف محجوب في السابع والعشرين من مارس، يوم المسرح العالمي، يا زهرتنا التي تفتحت رغم لهيب الزمن،
سوف يكون فرحك هو انتصارنا الخفي،
والدمعة التي تختلط بابتسامتك هي فلسفتنا:
أن الجرح قد يصير جذوراً،
وأن العزاء قد يكون مقاومة بالحب.
فلتسقط كل الحروب العبثيّة…
وليقم عرس الحياة الذي لا يُقهر.
نحتفي… لأن في الاحتفاء إصراراً على البقاء،
وفي العرس تأسيساً لعالم لم نعرفه بعد،
عالم نحميه بأرواحنا قبل أحلامنا.
لماذا لامست هذه الدعوة وجدان السودانيين؟
لأنها لم تُخفِ الشقوق. كتبت الفرح بيدٍ ترتجف، واعترفت بأن الأعراس في زمن الحرب لا تُقام فوق أرض صلبة، بل فوق ذاكرة مثقوبة بالخسارات. ولأنها خاطبت جماعة كاملة لا أسرة واحدة: أمهات في اللجوء، آباء في النزوح، أصدقاء غيّبتهم المقابر أو المنافي.
في مجتمع اعتاد دعوات مختصرة ومحايدة، جاءت هذه الرسالة لتكسر العرف، وتعلن أن الحب نفسه صار موقفاً سياسياً وأخلاقياً، وأن إقامة عرس اليوم ليست ترفاً، بل إصراراً على الاستمرار.
الفرح بوصفه مقاومة
تضعنا هذه الدعوة أمام سؤال أوسع: ماذا يعني أن نفرح في زمن الحرب؟ النص يجيب بلا شعارات: الفرح ليس إنكاراً للموت، بل مواجهة له. ليس هروباً من الواقع، بل إعادة صياغته. وهنا يكمن سر انتشار الدعوة؛ لقد أعادت تعريف العرس كـ«خيمة للوجود»، واعتبرت الاحتفاء فعلاً جماعياً لحماية ما تبقّى من إنسانيتنا.
