بين حرب بلا نهاية ودولة تتآكل: كيف يعيش ملايين السودانيين في «المنطقة الرمادية»؟

سهام صالح

صحفية سودانية

في السودان، لم تعد الحياة تُقاس بما هو ممكن، بل بما هو متاح. بين حرب بلا نهاية واضحة، ودولة تتآكل مؤسساتها يوماً بعد يوم، وجد ملايين السودانيين أنفسهم عالقين في ما يمكن تسميته بـ«المنطقة الرمادية»؛ مساحة معلّقة لا تشبه السلام ولا الحرب، حيث النزوح نمط حياة، والتعليم رفاهية مؤجلة، والحماية الاجتماعية مسؤولية مجتمع تُرك وحيداً في مواجهة الانهيار.

هذا التحقيق يتتبع ملامح الحياة اليومية في السودان المنهك، ويرصد كيف أعادت الحرب تشكيل القرارات الاجتماعية، ودَفعت بزواج الطفلات، وانهيار التعليم، وصعود مبادرات شعبية تحولت عملياً إلى “حكومة ظل” في بلد بلا دولة فاعلة.

النزوح: حين يصبح الاستثناء قاعدة

لم يعد النزوح في السودان حدثاً طارئاً، بل واقعاً دائماً. آلاف الأسر تتنقل من مدينة إلى أخرى بحثاً عن الحد الأدنى من الأمان، في رحلة لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.

تقول ثريا إبراهيم الحاج، أخصائية اجتماعية، لـ«الغد السوداني» إن الأزمة الإنسانية “تطال مختلف فئات المجتمع، وكل شخص تقريباً خاض تجربة نزوح مؤلمة من منطقة غير آمنة إلى أخرى يُفترض أنها أكثر أماناً”.

وتضيف أن فقدان المأوى لا يعني فقط فقدان السقف، بل “انهيار الخصوصية، وتفاقم الضغوط النفسية، وتدهور الأوضاع المادية”، ما جعل النازحين عرضة لسلسلة متراكمة من التحديات الاجتماعية.

زواج الطفلات: قرار اجتماعي أم استراتيجية بقاء؟

وسط هذا الانهيار، برز زواج القاصرات كواحد من أخطر مظاهر الحرب غير المباشرة.

توضح ثريا الحاج أن النزوح “غيّر خريطة القرارات داخل الأسرة”، وأنتج حالات طلاق، عمالة أطفال، وزيجات مبكرة لم تعد مجرد تقليد اجتماعي، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى “خطة بقاء”.

في عالم بلا قانون ولا حماية، يصبح تزويج الطفلة محاولة يائسة لتأمينها من العنف الجسدي والخوف المستمر، رغم ما يحمله القرار من انتهاك صارخ لحقوقها.

وتؤكد الحاج أن “الخوف من الاعتداءات دفع كثيراً من الأسر للبحث عن مبررات لزواج بناتهم تحت سن 18 عاماً”، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية التي جعلت بعض العائلات ترى في الزواج وسيلة لتقليل الأعباء وضمان عائل بديل.

لا توجد إحصائيات دقيقة حول حجم الظاهرة.
لكن تقارير محلية ودولية تشير إلى ارتفاع مقلق في نسب زواج الطفلات منذ اندلاع الحرب.

التعليم… في قلب المنطقة الرمادية

في بلد علّقت فيه الحرب كل شيء، لم يكن التعليم استثناءً.

بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، يمر السودان بأسوأ أزمة تعليمية في العالم، حيث حُرم نحو 19 مليون طفل من الدراسة، بينهم 17 مليوناً أخرجتهم الحرب تماماً من منظومة التعليم، ما يشكل فاقداً تربوياً غير مسبوق في تاريخ البلاد.

يقول سامي الباقر، من لجنة معلمي السودان لـ«الغد السوداني» إن هذا الانهيار نتيجة مباشرة لانقسام البلاد إلى مناطق سيطرة متعددة:

– مناطق تحت سيطرة الجيش، حيث استؤنف التعليم “بصورة مشوهة”، وسط تأخر الرواتب، نقص المعينات، وفرض رسوم باهظة زادت من معدلات التسرب.

– مناطق النزاع المفتوح، حيث يستحيل التعليم تحت أصوات الرصاص.

– مناطق سيطرة الدعم السريع، التي “لا تُعد فيها العملية التعليمية أولوية”، مع غياب أي مظلة مؤسسية أو إرادة سياسية.

– مناطق سيطرة الحركات المسلحة، وهي مناطق مغلقة تفتقر لأي نشاط مدني منظم.

ويختم الباقر بالقول: “فقد التعليم في السودان الشمول، والعدالة، والجودة… وأصبح أبرز نموذج لانهيار الدولة”.

حين غابت الدولة… تمدّد المجتمع

مع تراجع مؤسسات الحكم، تمدد المجتمع ليملأ الفراغ. لجان الأحياء، غرف الطوارئ، مبادرات الإطعام والعلاج، تحولت من مبادرات مؤقتة إلى بدائل دائمة.

لم يعد السؤال المطروح: أين الدولة؟ بل: كيف نعيش رغم غيابها؟

في الأسواق المؤقتة وصفوف انتظار المياه، تشكّلت طبقة جديدة من “خبراء البقاء”: نساء يدِرن أزمات الغذاء، شباب ينظمون الحماية الليلية، وأطفال تعلموا قراءة الخطر قبل تعلّم القراءة والكتابة.

غرف الطوارئ: حكومة بلا اعتراف رسمي

يقول محمد عشر، مشرف الملف الإنساني بغرف الطوارئ لـ«الغد السوداني» إن “الوضع الرمادي بدأ منذ اللحظة التي اختفت فيها الحكومة وعمّت الفوضى”، مضيفاً أن المواطنين فقدوا حياتهم برصاص طائش وشظايا قنابل في مناطق سيطرة الطرفين.

وسط ذلك، برز شباب الأحياء كمبادِرين حقيقيين، أسسوا غرف الطوارئ للعلاج، الإغاثة، وتأمين الأحياء، ودفعوا ثمناً باهظا.
قُتل أكثر من 100 شاب، وتعرض آخرون للاعتقال من مختلف الأطراف.

ويؤكد محمد عشر أن الغرف أنشأت فصولاً دراسية لحماية الأطفال من التسرب، وساعدت في تنظيم النزوح المتكرر، وتأمين دور الإيواء، فيما اعتمدت المساعدات على المجتمع المحلي، لتصبح “التكايا” إحدى أهم أدوات الصمود.

أما الحارث عبد الرحمن، من غرفة طوارئ جنوب الحزام، فيقول لـ«الغد السوداني» إن “غرف الطوارئ أصبحت العصب الرئيسي لحياة المواطنين”، إذ أدارت ملفات الغذاء، الصحة، التعليم، والحماية، في وقت أُغلقت فيه المستشفيات وتوقفت المدارس.

“كل ذلك بدون مقابل”، يقول الحارث، مضيفاً أن هذه الغرف “تستحق أن يقف معها الجميع”.

بلد معلّق… وشعب يرفض السقوط

في السودان اليوم، تعيش البلاد بلا دولة كاملة، وبلا حرب مكتملة. منطقة رمادية يتآكل فيها القانون، وتُعاد صياغة المجتمع من الأسفل إلى الأعلى.

لكن وسط هذا الخراب، يواصل السودانيون ابتكار الحياة، وبناء بدائل هشّة لكنها حقيقية، في انتظار سؤال مؤجل: متى تعود الدولة؟

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.