
الرصاص الذي لا يقتل فورًا: كيف تسمم حرب السودان التربة والمياه والإنسان؟
في حرب السودان المستمرة منذ أبريل 2023، لا يقتصر الدمار على القتلى والنازحين وانهيار المدن، بل يمتد بصمت إلى ما هو أخطر وأطول أثرًا: التلوث البيئي بالرصاص الناتج عن الاستخدام المكثف للأسلحة الثقيلة والخفيفة. رصاص المعارك الذي يخترق الجدران والأجساد، يستقر لاحقًا في التربة والمياه والهواء، مهددًا صحة ملايين السودانيين اليوم، وأجيالًا قادمة قد تدفع ثمن حرب لم تخترها.
التربة: أرض مسمومة تحت الأقدام
الرصاص الناتج عن الذخيرة لا يختفي بانتهاء المعركة، بل يتراكم في التربة لسنوات طويلة بسبب بطء تحلله. في مناطق الاشتباكات داخل الخرطوم، ودارفور، وكردفان، تتحول الأراضي الزراعية والسكنية إلى بؤر تلوث مزمن، تفقد خصوبتها وتصبح ناقلًا خفيًا للسموم.
يمتص الغطاء النباتي هذا الرصاص، ليبدأ رحلته داخل السلسلة الغذائية، بينما تحمله مياه الأمطار والجريان السطحي نحو مصادر المياه القريبة، مفاقمًا حجم الكارثة البيئية.
المياه: تسميم صامت لمصادر الشرب
تتعرض المياه السطحية والجوفية للتلوث عندما يذوب الرصاص من مخلفات الذخيرة بفعل الأمطار أو التسرب المباشر. في بلد يعاني أصلًا من شح المياه وانهيار البنية التحتية، يصبح تلوث مصادر الشرب والري بالرصاص خطرًا وجوديًا، خصوصًا في المناطق التي يعتمد سكانها على الآبار والأنهار دون معالجة.
الأسماك والكائنات المائية بدورها تختزن الرصاص في أنسجتها، لينتقل لاحقًا إلى الإنسان عبر الغذاء.
الهواء: جزيئات قاتلة غير مرئية
مع كل إطلاق نار أو انفجار، تتطاير جزيئات دقيقة من الرصاص في الهواء. هذه الجزيئات لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تُستنشق مباشرة، خاصة من قبل الأطفال وكبار السن. لاحقًا، تستقر هذه الجزيئات على الأرض والمياه، ما يوسّع دائرة التلوث ويجعل الهواء نفسه جزءًا من ساحة المعركة.
الكائنات الحية: اختلال التوازن البيئي
التراكم الحيوي للرصاص يؤدي إلى اضطرابات خطيرة في نمو وتكاثر الكائنات الحية، خصوصًا الطيور والأسماك. الحيوانات التي تتغذى على نباتات أو مياه ملوثة تُصاب بتسمم عصبي وسلوكي، ما يخلّ بالتوازن البيئي ويهدد التنوع الحيوي في مناطق النزاع.
الإنسان: حرب داخل الجسد
تسمم الرصاص عند الإنسان يؤدي إلى مشكلات عصبية حادة، فقر الدم، ضعف الجهاز المناعي، وأمراض مزمنة في الكلى والقلب والجهاز العصبي.
الأطفال هم الضحية الأضعف: ضعف في النمو العقلي، تأخر في التعلم، واضطرابات سلوكية قد ترافقهم مدى الحياة. في السودان، حيث تتقاطع الحرب مع الفقر وسوء التغذية، يصبح أثر الرصاص مضاعفًا وخارج السيطرة.
آثار طويلة المدى: جيل يدفع ثمن الحرب
استمرار الحرب يعني تراكمًا مستمرًا للرصاص في البيئة، ما يخلق واقعًا صحيًا وبيئيًا ملوثًا قد يستمر لعقود. إعادة تأهيل هذه المناطق ستكون مكلفة ومعقدة، وتتطلب تدخلات علمية ومالية قد لا تتوفر في بلد أنهكته الحرب.
ما العمل؟
يؤكد خبراء الصحة والبيئة أن مواجهة هذه الكارثة تتطلب:
إزالة التلوث من التربة والمياه في مناطق النزاع.
وضع خطط وطنية لرصد التلوث بالرصاص.
الحد من استخدام الأسلحة عالية التلويث مستقبلًا.
رفع الوعي المجتمعي بخطورة الرصاص الناتج عن الحروب.
إعداد: عبدالماجد مردس أحمد خبير الصحة العامة وصحة البيئة عضو الجمعية الملكية لتعزيز الصحة – MRSPH
