الراب السوداني..حين يتكلم الشارع بلغة الموسيقى

مصطفى خالد مصطفى يكتب …

الرَّاب، باعتباره فنًّا طارئًا على ثقافة الغناء السوداني، هو في الأصل طارئٌ على الثقافة الغربيّة نفسها، رغم كونها مهدًا له. فقد نشأ هذا الفن في سبعينيات القرن العشرين على حناجر الأفارقة الأمريكيين واللاتينيين من أصولٍ جامايكيّة في حيّ «البرونكس» بمدينة نيويورك؛ ذلك الحيّ الذي كان مهمَّشًا، موبوءًا بالفقر والعنف والعنصريّة، فانعكست هذه البيئة القاسية في طبيعة غناء الرَّاب نفسِه، شكلًا ومضمونًا.

البداية..

يُؤرَّخ لبدايات الراب حوالي عام 1973، مع حفلات الشوارع (Block Parties) في الولايات المتحدة. وهذا الفن، بوصفه ابنَ بيئته، تشكَّل على صورتها وتطبّع بطباعها، فجاء مخالفًا للسائد آنذاك من ألوان الغناء في العالم، سواء من حيث اللحن أو الكلمة أو الجملة الموسيقية أو الآلة المستخدمة. أولئك الشباب المهمّشون احتاجوا لغةً تمثّل واقعهم، فصار الراب هويةً غنائية قبل أن يتحوّل إلى ظاهرة عالمية؛ هوية نشأت كوسيلة احتجاج وثورة غير واعية ضد الأنظمة الاجتماعية والسياسية السائدة في تلك الفترة.

يعتمد الراب على الإيقاع قبل المعنى، وعلى الكلام غير المُهذّب، وعلى الجرأة في نبرات متحدّية تُعلي من شأن الجماعة على لسان الفرد، وتنادي أحيانًا بشعارات سياسية صريحة. نلمس ذلك بوضوح في مسيرات الفيتناميين التي تحوّلت هتافاتها إلى راب سياسي، وفي هتافات حركة «الفهود السود» في الولايات المتحدة، والتي استُلهمت منها لاحقًا أغانٍ شهيرة مثل:
Don’t Believe the Hype،
911 Is a Joke،
Fight the Power.

من البرونكس الى الخرطوم ..كبف أصبح الراب صوت جيل مابعد ديسمبر؟

أمّا في السودان، فالمُلاحَظ أن موجة الراب قد ضربت شواطئ بلادنا بقوّة بعد ثورة ديسمبر المجيدة. فبرزت أسماء لامعة دوّى صوتها في أرجاء الوطن العربي مثل: سولجا، حليم، عصام ساتّي، وغيرهم. وعلى الرغم من وجود محاولات سابقة قبل تلك الفترة، فإنها لا ترقى من حيث التأثير والانتشار إلى مستوى الانفجار الغنائي الذي شهده الراب السوداني في ما بعد ديسمبر.

ومن بين هذه الأسماء، أجدُني منجذبًا إلى مدرستين مختلفتين في الراب السوداني، جسّدهما اسمان صنعا بصمةً واضحة في خارطة الغناء السوداني المعاصر: عصام ساتّي وسولجا.

الفن من أجل الفن

أنصار مدرسة «الفن من أجل الفن» سينساقون غالبًا وراء إنتاج سولجا؛ غير أن هذا التصنيف لا ينبغي فهمه بوصفه نفيًا لأي دلالة، بل باعتباره اشتغالًا على الجمالي والاستعراضي والـFlow بوصفها غايات فنية قائمة بذاتها، دون تحميل النص عبئًا خطابيًا مباشرًا. فالفن، في هذا المذهب، لا يُطالَب بتقديم رسالة أخلاقية أو موقف سياسي صريح، بل يُبرِّر وجوده بذاته.

في المقابل، تمثّل مدرسة «الفن بوصفه رسالة» بوضوح في إنتاج عصام ساتّي، حيث نجد في أغانيه إحالات سياسية وثقافية، ومعالجة لقضايا اجتماعية، وتقاطعات واعية مع سياق ما بعد الثورة. نصوصه محمّلة بدلالات تتجاوز المتعة السمعية، وتسعى إلى مساءلة الواقع لا الهروب منه.

المفارقة اللافتة أن كلا المدرستين تواجَهان بالرفض أو التحفّظ من أجيال الثمانينات وما قبلها، أولئك الذين تشكّلت آذانهم على نمطٍ محدّد من الغناء السوداني. فجاء جمهور الراب في معظمه من أبناء التسعينات وجيل Z. ويزداد الأمر تعقيدًا حين نلاحظ أن أغاني عصام ساتّي، على الرغم من ثقلها الأدبي والثقافي، لا تحظى بقبول واسع حتى لدى بعض المثقفين السودانيين، ليس لضعف مضمونها، بل لأن الشكل الفني الذي قُدِّمت فيه ما يزال غير مألوف ضمن الذائقة السائدة.

ختامًا، بين سولجا وعصام ساتّي، لا يقف الراب السوداني عند مفاضلة بين “الأخف” و“الأثقل”، ولا بين “الملتزم” و“الحر”، بل عند سؤال أعمق: هل نقبل بتغيّر أشكال التعبير، أم نُصرّ على ثبات الذائقة؟
الراب السوداني، في جوهره، ليس قطيعة مع الغناء السوداني بقدر ما هو امتداد احتجاجي له، بلغة زمن جديد وأدواته. وقد يكون مستقبله الحقيقي ليس في انتصار مدرسة على أخرى، بل في المساحة التي يمكن أن تلتقي فيها الجمالية الخالصة مع الوعي، ويصير الراب — كما كان في بداياته — صوتًا صادقًا لشارعٍ يبحث عن نفسه.

تعليق 1
  1. محمد يقول

    اشكركم على المقال الأنيق و الطرح الحيوي. اعتقد ان السؤال الأعمق الذي طرحته في النهاية “هل نقبل بتغيّر أشكال التعبير، أم نُصرّ على ثبات الذائقة؟” يمكن تجريده الى “هل تقبل التغيير، ام تصر على الجمود؟”.
    كما تفضلت، الراب غريب حتى على المجتمعات التي نشأ فيها، و لكنه لعب دوره في سيرورة التغيير حتى اصبح الراب من الثقافة الشعبية (). انتخبت نيويورك عنمدة مسام يساري كان يصنع الراب، و نظمت شركة energydirect.us مسابقة راب لتختار مديرها العام الجديد. قد لا تتغير الاذواق الموسيقية، و لكن الثقافة تتغير و يأتي اناس جدد بأذواق موسيقية تناسب ثقافة ازمانهم.
    كسوداني من جيل السبعينات سمع eazy e عام 1990، نصف ما اسمعه اليوم اما راب أو r&b ( يقول البعض ان r&b إختصار ل rap and black soul, لا ل rythem and blues )
    السؤال اذا متى يكون التغيير؟ الحرية؟ الحرية و التغيير؟

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.