
بيت واحد، مرض واحد، وخلود أدبي: لماذا ماتت عائلة برونتي وبقيت كتبهم؟
حين كتب السل أعظم الروايات: مأساة عائلة برونتي التي وُلد فيها الأدب من رحم الموت
لم يكن السل، في القرن التاسع عشر ببريطانيا، مجرد مرضٍ يُصيب الرئتين، بل لعنةً اجتماعية وثقافية، ظلًّا أسود يخيّم على البيوت، ويُعيد تشكيل الحياة والموت والإبداع معًا. كان المرض يتسلل ببطء، ينهش الأجساد بصمت، ويترك خلفه عائلاتٍ ممزقة، وأطفالًا يتعلمون مبكرًا معنى الفقد.
ومن بين أكثر هذه العائلات مأساويةً وتأثيرًا، تقف عائلة برونتي، التي لم تُنجب فقط ضحايا للسل، بل أنجبت أدبًا غيّر وجه الرواية الإنجليزية إلى الأبد.
العصر الفيكتوري: ازدهار الأدب في مواجهة الموت
شهد العصر الفيكتوري (1837–1901) مفارقة لافتة؛ نهضة أدبية كبرى، مقابل تدهور صحي واسع. في زمن تشارلز ديكنز، وأوسكار وايلد، وآرثر كونان دويل، كان السل يُعرف بـ”المرض الرومانسي”، إذ ارتبط في المخيال العام بالحساسية المفرطة، والنحول، والعبقرية.
في هذا المناخ، خرجت إلى العالم ثلاث شقيقات من شمال إنجلترا، من قرية هاوورث القاتمة، ليكتبن نصوصًا صادمة لعصر محافظ، دون أن يعلمن أن الموت يكتب فصوله الأخيرة في حياتهن.
بيت برونتي: حضانة العبقرية وموطن الوباء
عاشت عائلة برونتي في منزل ريفي متواضع، محاط بالمقابر، وتغزوه الرطوبة، وهي بيئة مثالية لانتشار السل. الأب، باتريك برونتي، قس أنغليكاني مثقف، آمن بالتعليم والقراءة، لكنه لم يستطع حماية أطفاله من المرض.
الأم، ماريا بارنويل، رحلت مبكرًا عام 1821 عن 38 عامًا، تاركة ستة أطفال في مواجهة اليتم، والفقر النسبي، ومرضٍ لم يكن له علاج فعّال آنذاك.
الموت يبدأ مبكرًا… والكتابة تصبح ملاذًا
في عام 1825، توفيت الطفلة ماريا برونتي عن 11 عامًا، ثم لحقت بها شقيقتها إليزابيث بعد شهر واحد فقط. كان السل قد دقّ أبواب البيت، ومع ذلك لم يوقف النزيف الإبداعي.
على العكس، تحوّلت الكتابة إلى مساحة نجاة نفسية، ومقاومة صامتة للموت. كانت الكلمات، بالنسبة للأخوات الباقيات، محاولة لفهم العالم، وتحدّي قسوته.
عام واحد غيّر تاريخ الأدب
في واحدة من أعجب المفارقات الأدبية، بلغ إبداع الأخوات ذروته في عام واحد فقط (1847):
شارلوت برونتي نشرت رواية جين آير، نصًّا ثوريًا عن امرأة تبحث عن كرامتها واستقلالها.
إيميلي برونتي قدّمت مرتفعات ويذرنغ، واحدة من أعنف وأعمق الروايات العاطفية في الأدب العالمي.
آن برونتي نشرت أغنس غري، رواية واقعية تكشف هشاشة الطبقات الاجتماعية.
نجاح متزامن أربك العقل الفيكتوري المحافظ، خاصة أن الأعمال نُشرت بأسماء ذكورية مستعارة، خوفًا من رفض المجتمع لأدب تكتبه نساء.
السقوط المتتالي: حين لا يمنح المرض مهلة
في سبتمبر 1848، توفي برانويل برونتي، الشقيق الوحيد، عن 31 عامًا، بعد صراع مع الإدمان والسل.
بعده بثلاثة أشهر فقط، توفيت إيميلي برونتي عن 30 عامًا، رافضة العلاج حتى النهاية، كما لو أنها قررت أن تموت بشروطها.
وفي يناير 1849، لحقت بها آن برونتي، عن 29 عامًا، ليصبح البيت شبه خاوٍ، إلا من الأب وشارلوت.
النهاية الهادئة لآخر الأخوات
قاومت شارلوت برونتي المرض لسنوات أطول، تزوجت لفترة قصيرة، لكنها توفيت عام 1855 عن 38 عامًا، بعد معاناة صحية طويلة، لتنطفئ آخر شعلة أدبية في العائلة.
الأب الذي دفن الجميع… والخلود الذي انتصر
عاش الأب، باتريك برونتي، حتى عام 1861، شاهدًا على رحيل زوجته وأطفاله الستة جميعًا. مأساة إنسانية كاملة، لكنّها أنتجت إرثًا أدبيًا لا يموت.
اليوم، تحوّل منزل برونتي إلى مزار ثقافي عالمي، ونشأت صناعة أدبية وسياحية كاملة حول الأخوات الثلاث، بوصفهن مثالًا على عبقرية وُلدت في حضن المرض، وماتت مبكرًا، لكنها انتصرت على الموت بالكتابة
