سرديات… الزاكي عبد الحميد أحمد
بين خدودن وبين انفصادن
يروي بحر السيف مجرى صادن
كان يسير مترنِّحاً على شاطيء النيل وهو يردد هذا المقطع من الأغنية، بلسانٍ أثقله الخمر..
ثم فجأة أخذ يصيح بصوتٍ عالٍ:
يا جماعة هووي؛ جنازة بحر..جنازة بحر..!
فايت ندُّو..
لقبٌ يُطلق، في بعض انحاء السودان، على مَن بزَّ أقرانَه ممن هم في عمره..أي فاقهم قوةً وشهرة..هو لقبٌ يقتصر على الرجال دون النساء؛ أو هكذا كان؛ إلى أن أطلّت هي عليهم لتقلب الموازين بين القهر والونس.
أسمتها أمها فايت ندُّو فكان ما كان!
…نحن وحيدتان..ليس لنا اهل ولا مال ولا احترام ..كل النساء اللائي يعانقنني يضمرن لي احتقاراً..نحن المتناسلون من اللا مكان في قرية تتفاخر بالانساب ..لا أحد يحترمنا إلا بمقدار ما يحتاجون منا، وما نُظهِر لهم من طاعة وأدب..انتِ لستِ بنت البدري، ولا من بيت الناير..ولا ابوك صاحب أطيان..أنتِ بنت فايت نِدُّو..
انكبتْ الأُمُّ على إعداد الشاي والجبنة لزوارها الكثر، في ظل عريشة، على ضفاف النيل، في تلك القرية النائية في شمال السودان، وهي تؤاسي ابنتَها في محنتها وترسم لها مستقبلا قاتما..هكذا تخيل المشهد المبدع حمور زيادة في روايته التي صدرت بعنوان الغرق.
والإبداع ليس تخيلا صرفاً أو وهماً، بل هو تفكير جاد، تحكمه قواعد المنطق، وصولاً إلى الجديد الذي يغدو مصدراً لتحولات هادفة..
-كم معلقة سكر يا أستاذة؟ هذا الأستاذ أبو طالب الناقد المعروف في مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي يسأل ضيفتَهم العالِمة الفرنسية وهو يعد كوب شاي لها..
-ملعقة ونص لو سمحت، تردُّ عليه الضيفة، ثم تسألني: شربتَ شاي عند أميرة؟
لو ما شربت شاي عندها نص عمرك ضايع! بلُكْنة عربية، سودانية مستعذبة تعاتبني هذه العالِمة الفرنسية على عدم معرفتي بأفضل ست شاي سودانية تبيع الشاي بالحليب مع الزلابية..
كنا مجموعة من الزملاء التقيناها في مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي ذات مساء؛ بدعوة كريمة من المركز، لحضور حوار مع هذه العالِمة الفرنسية..استغربتْ السيدة من عدم سماعي باميرة ست الشاي..فسألتُها: وين قاعدة أميرة دي؟
-في العمارات، شارع ١٥، شربت شاي في اماكن كتيرة في بلدان كتيرة، لكن شاي أميرة مافي ألذ منه! الشاي في اي مكان هو هو..الحليب هو هو..السكر هو هو..لكن الشاي لدى هذه السيدة يختلف..اقول لك بأمانة بأن الشاي هو مشروبي المفضل.. الشاي الذي شربتُه مع الزلابية عند هذه السيدة جعلني أتذوق نكهتَه بشكل مختلف! ربما كان هو أفضل كوب شاي شربتُه في حياتي..
هكذا حضّتْني الدكتورة مارتشيلا روبينو أستاذة الادب العربي في جامعة أنكا الفرنسية، على تناول الشاي لدى أميرة لأحكم على ما قالت، بنفسي ..زائرة لم تقض في السودان سوى أيام معدودات وأراها ترشدني إلى أماكن في بلدي أجهلها..فوا عجبي!
تحترف هذه السيدة الترجمة من العربية إلى الفرنسية، وقالت إنها ترجمت رواية الغرق لحمور زيادة والتي فازت ب جائزة الادب العربي في فرنسا..
سالتُها: ما الذي دفعك لترجمة هذه الرواية دون سواها؟
قالت: حقيقة لم يكن القاريء الفرنسي يعرف شيئا عن الادب السوداني إلا مؤخرا..تُرجِمت رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال في نهاية التسعينيات وهي التي لفتت انتباه القراء في فرنسا إلى الادب السوداني..لذلك اكتفى سوق الادب الفرنسي بما ينتجه الطيب صالح فقط..وحتى ذلك تحقق مؤخرا..أما ان تحاول اقناع دار نشر في فرنسا لتمويل رواية سودانية لغير الطيب صالح أو عبد العزيز بركة ساكن فذلك ضرب من المحال..
اعمال كثيرة لروائيين من لبنان وسوريا والجزائر وتونس والمغرب تغزو سوق الادب الفرنسي ولكن وجود الادب السوداني ضئيل بل ضئيل جدا..
سألتُها: ما السبب في ذلك؟
قالت كان المترجمون يقولون إن اللغة العربية في السودان (الدارجة) صعبة وغير مفهومة..لكن ذلك محض هراء..اللهجة السودانية (وهي في الغالب تأتي في متن الرواية أحيانا) هي الاقرب للعربية الفصحى باستثناء بعض المفردات من اللهجة الدارفورية، وحتى لهجة دارفور تمكّن زميلي الدكتور اكزافيا لوفان (استاذ الأدب العربي بجامعة بروكسل الحرة) من التعامل معها بحرفية عالية حيث ترجم لبركة ساكن الجنقو مسامير الأرض والتي فازت بجائزة الطيب صالح للرواية من قبل و مسيح دارفور و سمهاني..
القاريء الفرنسي الآن، اصبح أكثر تقبلا للادب السوداني بعد نشر روايات ل أحمد الملك ( الخريف يأتي مع صفاء) و امير تاج السر ( العطر الفرنسي) وقصص ل استيلا قاتيانو وآخرين..
والآن وبعد فوز رواية حمور زيادة بجائزة الادب العربي نأمل أن يكون الوضع افضل ..دور النشر في اوروبا تنظر للادب-مع الاسف-من منظور مادي..لذلك الروائي غير المعروف يكون الحظ في قبول روايته للنشر في اوروبا محدودا للغاية..ولكن مع ذلك لن أدخر جهدا في نشر اعمال لشباب سودانيين ليس في باريس وحدها وإنما في ايطاليا كذلك..الرحلة ليست سهلة ولكننا في النهاية سننجح في العبور…هناك روايات سودانية تستحق النشر وهي جديرة بالاحتفاء..قضايا تناولها بعض الروائيين في تونس والمغرب مثلا ولكننا في السودان نجد نفس القضايا تناقش باسلوب ممتع وبأفكار مختلفة تدهش القراء..لكن كيف الوصول اليهم؟ دور النشر تكتفي بنشر روايات لاسماء معروفة..لذلك الطريق ليس سهلا ولكننا واثقون من العبور..ففي سياق التعريف بالأدب السوداني، تمكّنا في مركز الادب العربي في باريس من دعوة مبدعين سودانيين ليتحدثوا عن تجاربهم الروائية..استيلا قايتانو اذهلت الحضور بلغتها الرفيعة، حين لبت دعوتنا..وُجّهت الدعوة أيضا للدكتورة ليمياء شمت لتحدث الناس هناك عن الادب السوداني..شيئا فشيئا الامور تسير في صالحنا..
وواصلت د. مارتشيلا حديثَها عن السبب في اختيارها رواية الغرق لترجمتها إلى الفرنسية قائلة: ادهشتني الفكرة التي طرحها الكاتب حول قهر النساء..فكرة القهر التي عالجها حمور في روايته غير مطروقة في فرنسا ما جعل الناشر لا يتردد كثيراً في قبولها رغم ان اسم حمور غير معروف في فرنسا ..إنها رواية جميلة وها هي تفوز بجائزة الادب العربي..وجدتٌ أن فكرة قهر النساء في رواية الغرق مذهلة…
إن رواية الغرق (والتي غيرت المترجِمة الدكتورة مارتشيلا عنوانها في النسخة الفرنسية إلى غريقات في النيل بسبب انبهار القاريء الفرنسي بالنيل والغموض الذي ظل يلفه من قديم الزمان، كانبهاره بالغرائبي من الأمور) تتحدث عن القهر الذي تتعرض له شريحة من نساء السودان، لا سيما أولئك اللائي عملن كخادمات أو إماء عند العمد او المشائخ..
تدور احداث الرواية في بلدة حجر نارتي (وتعني بالنوبية جزيرة الحجر) قرية متَخيّلة في شمال السودان..
النساء هنا مقهورات لا لشيء سوى أنهن نساء..
وبعد أن مُنعتْ تجارة الرق، بمجيء الانجليز، ظلت الخادمات والإماء حبيسات لهذه النظرة الاجتماعية الظالمة..يلهو بهن رجال القرية كيف شاءوا وتعنفهن نساؤهم بأقسى العبارات كيف شئن..
إنه مجتمع قاس يقهر هؤلاء النسوة -ولكن حتى الرجال نجدهم مقهورين لأن الأسرة هي التي تتحكم في مصائرهم، بمعنى أن لا قرار للفرد هنا..
المرأة التي تفلت من هذا القهر والشعور بالدونية تكون نجاتُها -ويا للمفارقة- في الغرق!..
فايِتْ نِدُّو واحدة من الشخصيات الرئيسية في الرواية بل ربما هي الأهم من حيث مجريات الأحداث في حجر نارتي..
امرأة مقهورة..حتى اسمها اسم ذكوري؛ فايت ندو يعني الرجل الذي يبز أقرانَه..ولكنه اسم أختير لهذه الشخصية النسوية عن قصد..
فايت نِدُّو، أمُّها كانت تعمل في صناعة الخمور البلدية وتروي عطش الرجال متى شاءوا! لذلك انجبت عشرين طفلا لمئات الآباء، كلهم ماتوا ..نجت فايت ندو وأختُها وأخٌ هرب من القرية لارتكاب خطيئة كما قالوا..
فايت ندو نفسُها وقعت في مأساة امها حين انجبت ابنتها عبير..تتطلع الام فايت ندو لمستقبل افضل لبنتها وتريد ان تلحقها بالمدرسة حتى تصبح ذات يوم طبيبة..لكن القهر المجتمعي والصراع القبلي يلقي بالطفلة عبير إلى ذات النهاية فتصير اما وهي في الثالثة عشرة من عمرها دون زواج..
فايت ندو تدير مقهاها المتواضع على ضفاف النيل وهنا يأتي الرجال من كل حدب وصوب..يتسامرون..ينظّرون في السياسة كيف شاءوا ويقهقهون..ثم فجأة يأتيهم احدُهم من بعيد صائحاً: جنازة بحر..جنازة بحر..وجد أهل القرية إنها لإمراة ناضجة ولكن لا احد يعرفها..دفنوها كإنسانة مجهولة الهوية..
الحاجة الرضية حارسة الفضيلة في القرية هي التي تتحكم في مصائر هؤلاء المقهورات؛ إنها تكره الإماء وتلدَغهم بلسانها كما الأفعى..
حمِلتْ فايت ندو، واعدت عُدتها لتضع جنينها في حجر نارتي ولكن تنبري لها الحاجة الرضية وتهددها بالقتل إن هي اقدمت على ذلك..
يتدخل الاجاويد فتسمح الرضية لها بوضع حملها ولكن ليس في حجر نارتي بل في قرية اخرى….
تعود فايت ندو إلى حجر نارتي بطفلتها وارادت ان تسميها شاهيناز على ابنة أخت الحاجة الرضية..كادت هذه أن تأكل فايت ندو بأسنانها: كيف تجرؤ على ان تسمي ابنتها باسم ابنة أختها؛ هذا تطاول يستوجب القتل..تدخلت زوجة العمدة وتحول دون مقتل فايت ندو بسبب جرأتها على اختيار اسم لا يحق ان تتسمى به هي او إحدى بناتها به…هذا الاسم ليس لهن!
تترك التعيسة اسم شاهيناز وتسمي ابنتها عبير.
هكذا يسرد حمور زيادة روايته باسلوب سلس محللا القهر النسوي من منظوره..
الاكاديمية الفرنسية المتحمسة لايجاد موطيء قدم للادب السوداني في فرنسا وايطاليا استطاعت خلال أيام ان تتعرف على بعض تفاصيل الحياة السودانية تارة بالجلوس مع اميرة بائعة الشاي وتارة بالذهاب إلى اماكن مختلفة للحديث مع اكاديميين في جامعة الخرطوم وجامعة السودان وجامعة شندي او من خلال الحديث مع الصيادين في جبل اولياء..
ثم ودعتنا الزائرة وهي تتأبط مجموعة من الروايات التي فازت بجائزة الطيب صالح عسى ان تُحظى بقبول لدى دور النشر والتي، كما نعلم، تكون عينها لا على الفحوى وإنما على المردود المالي الذي تحققه الرواية إذا نشرت..
هل ستنجح هذه الاكاديمية العاشقة للسودان وأهله في مسعاها المحفوف بتحديات التمويل في دور النشر الفرنسية والايطالية؟
نأمل ذلك!
