حين يتحوّل القياس التاريخي إلى تزييف أخلاقي: “في تفكيك تشبيه حرب السودان بفرنسا بعد الغزو النازى”
بقلم: وزير المالية السابق بروفيسور ابراهيم البدوى عبد الساتر
لقد آليتُ على نفسي، منذ اندلاع هذه الحرب الماحقة، أن أكتب عن “اليوم التالى” بعد أن تضع أوزارها، انطلاقاً من قناعة راسخة بأن واجب اللحظة لا يقتصر على إدانة الحرب أو السعي لوقفها فحسب، بل يمتد – وبإلحاح أشد – إلى التفكير الجاد في ما أعددناه لإعادة بناء السودان دولةًً ومجتمعاً، وترميم لُحمة شعبه ونسيجه الاجتماعي الذي مزقته هذه الكارثة أو كادت تقضي عليه. غير أن المؤسف حقاً أن الغالبية العظمى من كتّاب المقالات والرأي انغمسوا فى تناول يوميات الحرب ومساعي السلام الآنية – على أهميتها، دون أدنى تدبر منهجي أو فكري في سؤال: ثم ماذا بعد الحرب؟ والأسوأ من ذلك، أن المجال العام بات رهينة لسرديات سطحية مدمرة تُضخ عبر “اللايفات” ومنصات التواصل الاجتماعي، على ألسنة أنصاف مثقفين و”فلاسفة” افتراضيين لا يجيدون سوى نفخ كير الحرب، وإذكاء نوازع العنصرية والجهوية، وإعادة إنتاج خطاب الكراهية والانقسام.
وفي هذا السياق، الذي يمكن اعتباره – مجازاً وبقدر كبير من الترخّص – نقاشاً حول إنهاء الحرب، طالعنا مؤخراً مقال للدكتور التيجاني عبد القادر، نُشر في صحيفة الشعب، أسقط فيه بصورة فجة علمياً ومعيبة أخلاقياً حالة فرنسا إبّان الاحتلال النازي على الحرب الأهلية الدائرة في السودان، داعياً بعض دول الجوار إلى التدخل العسكري لنصرة أحد طرفي الصراع، بزعم إنهاء الحرب و”إنقاذ السودان”. هذا القياس المختل لا يكتفي بتجاهل الفوارق التاريخية والسياسية الجوهرية بين الحالتين، بل يتعمد تزييف طبيعة الصراع في السودان، وتحويل حرب فصائلية داخلية على الدولة والمجتمع إلى ما يشبه معركة تحرر وطني ضد احتلال أجنبي:
“وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فهل حانت “اللحظة الحاسمة” في حرب السودان؟ وهل سيتخذ حلفاؤه وجيرانه موقف الانخذال البريطاني أم موقف النجدة الأمريكية؟ وهل سيتخذ الفريق البرهان موقف الجنرال بيتان الاستسلامي، أم الجنرال ديغول المقاوم؟ وإذا تفككت الدولة في السودان وتوسع فيه نطاق الحرب، هل ستنعم دول الإقليم بالأمن والاستقرار وتستمر الأحوال على طبيعتها، أم أن خرائط الإقليم سيُعاد تشكيلها- كما يرغب ناتنياهو وآخرون؟” … “في هذه الحالة فان الأخوين الكبيرين (ومعهما المجتمع الدولي-إن وجد) سيكتشفان -بعد فوات الأوان- أن طبيعة الصراع في السودان قد تغيرت، وأن قوى خارجية كثيرة صارت تغذيه وتوسع نطاقه، وأنه قد صار يهدد استقرار المنطقة وأمنها الإقليمي. سيكتشف الجاران الكبيران-بعد فوات الأوان أيضاً- أن خير طريقة للدفاع عن أمنهما كانت تكمن في تمكين السودان من الدفاع عن نفسه في “اللحظة الحاسمة” حينما كان يدافع عن وجوده بين الحياة والموت- في الفاشر وبابنوسة وهيجليج والأبيض؛ سيكتشفان أن ظهر مصر والسعودية قد انكشف حينما انكسر ظهر السودان.” (من مقال دكتور التيجانى عبد القادر: أنظر الرابط: الشعب).
ولو أن مثل هذا الطرح صدر عن “بُغاث الطير” من إعلامىِّ “الشمولية الوظيفية”، لما كان ذلك مستغرباً، ولا لارتقى إلى مستوى القلق أو الاهتمام. غير أن الفادح حقاً – كما أشار الأستاذ ياسر عرمان بحق – أن تصدر هذه السردية عن صاحب “ثلاثية السوق والأمن والقبيلة”، الذي قدّم وسلطة الإنقاذ الفاشية فى عز جبروتها وتسلطها أحد أعمق وأدق التشخيصات الوازنة لتهافت مشروع حركتة الإسلامية، وفضح الطبيعة الكليبتوقراطية الفاسدة والمُفسِدة لنظامها. هنا لا يكون الأمر مجرد خيبة أمل فكرية، بل سقوطاً أخلاقياً ومعرفياً مدوّياً. فأن يتخلى صاحب هذا الرصيد النقدي عن أدواته التحليلية، ويستبدلها بسردية تبريرية تستدعي التدخل الخارجي المنحاز في حرب أهلية، إنما يعني إعادة تدوير منطق الحرب نفسه، وتوفير غطاء فكري متأخر لمشروع دمّر البلاد وأدخلها في هذا النفق المظلم. إن هذا الانقلاب على الذات الفكرية لا يسيء فقط إلى مشروع الإستنارة ونزع شرعية هذه الحرب كلبنة أساسية لبناء السلام، بل يكرّس الخلط القاتل بين إنقاذ الوطن وإنقاذ أطراف الحرب – خاصة الذين أشعلوها وأدخلوا البلاد فى هذه الفتنة الوطنية الكبرى، ويُسهم، للأسف، في إطالة أمد المأساة بدل تفكيك أسبابها الجذرية.
عليه، لابد من القطع بأن محاولة تشبيه الحرب الدائرة في السودان بحالة فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية ليس مجرد استعارة تاريخية ساذجة أو زلة تحليلية عابرة، بل أصبح خطاباً سياسياً كاملاً، يؤدي وظيفة واضحة: تبرير الدعوة إلى تدخل إقليمي منحاز لدعم أحد أطراف الحرب، وإعادة شرعنة صراعٍ هو في جوهره حرب على الدولة السودانية نفسها، لا دفاعاً عنها. فاستدعاء صورة فرنسا “الديمقراطية” التي واجهت مشروعاً نازياً توسعياً لا يهدف إلى الفهم، بل إلى التعبئة، ولا يخدم الحقيقة، بل يزوّرها أخلاقياً وسياسياً.
إن القياس بين الحالتين ينهار من أول اختبار جاد. ففرنسا عام 1940 كانت دولة قومية مستقلة ذات نظام جمهوري منتخب، تعرضت لعدوان خارجي مباشر من قوة شمولية توسعية هددت النظام الأوروبي برمته. وكان التدخل الأمريكى-البريطاني في هذا السياق دفاعاً عن دولة ديمقراطية، ومحاولة لوقف مشروع عدواني عابر للحدود. أما ما يجري في السودان اليوم فهو صراع داخلي فصائلي بين قوتين عسكريتين نشأتا وترعرعتا في رحم دولة كليبتوقراطية واحدة، وتقاسمتا السلطة والريع، وانقلبتا معاً على الانتقال المدني الديمقراطي، قبل أن ينقلب كل منهما على الآخر حين تعارضت الرؤى والمصالح. لكن بالنظر للإنقسامات الهوياتية الإثنية والجهوية التى تطبع المجتمع السودانى تحولت هذه الحرب الفصائلية تدريجياً إلى ما يشبه الحرب الأهلية الإثنية-الجهوية، والحال هذه، لسنا أمام “حرب دولة”، بل أمام حرب تُفكك الدولة والمجتمع والاقتصاد في آن واحد.
والأخطر من هشاشة هذا القياس التاريخي هو ما يفضي إليه من انحدارٍ أخلاقيٍ فادح. فحين تُسوَّق هذه الحرب بوصفها معركة خلاص وطني، أو تُلبس قسراً رداء المقاومة الرمزية للاحتلال النازي، يُصار عمداً إلى حجب السؤال المركزي: من الذي أشعل هذه الحرب، ولأي غايات؟ وقد أوضحتُ في غير مقالٍ صحفيٍ مؤخراً أن هذه الحرب ليست سوى حصاداً مراً لتداعيات الانقلاب على المسار المدني الديمقراطي، وأداة لإعادة إنتاج “السوق السياسي” الريعي، ومحاولة سافرة لإعادة تأهيل واستدامة عسكرة السياسة والاقتصاد. وعليه، فإن كل دعوة إلى مساندة أحد أطرافها، مهما تلطَّت خلف خطاب الأمن أو الوطنية، لا تمثل إلا إسهاماً موضوعياً في مشروع وأد ثورة الشعب السوداني، وتمهيداً لإعادة إنتاج “الإنقاذ-2” في صيغة تحالف شمولي زبائني عسكري – مليشياوي، أشد توحشاً وتخلفاً وعمالة ً من نسخته الأولى.
ثم إن التراث الثر من أدبيات الحروب الأهلية العلمية المحكَّمة لا تترك مجالاً للالتباس: التدخل الخارجي المنحاز في الحروب الأهلية لا يحسم الصراعات، بل يطيل أمدها، ويخفض كلفة التعبئة والتجنيد، ويفتح الباب لتحول النزاعات العسكرية إلى حروب إثنية متطاولة (أنظر بعض الأدبيات المعنية عن آثار التدخل الأجنبى المنحاز فى الحروب الأهلية فى الحواشى رقم: 1-3 أدناه). والسودان، بحكم هشاشته الاقتصادية، وانقساماته الاجتماعية العميقة، وإرث الأنظمة الشمولية المتطاولة، يمثل بيئة مثالية لهذا السيناريو الكارثي. ولهذا حذرت فى ورقة أكاديمية معمقة من أن استمرار الحرب أو تدويلها على نحو منحاز قد يقود إلى حرب إثنية طويلة الأمد تمتد خمسة عشر عاماً أو أكثر، بكلفة اقتصادية قد تصل إلى 2.2 تريليون دولار، أي ما يعادل أكثر من ستة وستين ضعف الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب، وهو رقم لا يعبّر عن خسارة اقتصادية فحسب، بل عن تهديد وجودي لبقاء السودان دولة موحدة (أنظر الرابط فى الحاشية رقم: 4 أدناه).
في هذا السياق، يصبح الحديث عن “إنقاذ” السودان عبر دعم أحد أطراف الحرب ضرباً من قلب الحقائق. فالتدخل المنحاز لا يحمي المدنيين، بل يضاعف مأساتهم، ولا يوقف الحرب، بل يوسّع نطاقها، ولا يدعم الدولة، بل يسرّع تفككها. والحرب الجارية، كما تُظهر تقارير منظمات الأمم المتحدة، أزهقت ما يناهز 150 ألف أويزيد من الأنفس، وشرّدت ما يزيد على ثلاثة عشر مليون سودانياً، بينما أكثر من خمسة وعشرين مليون سوداني يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، من بينهم ثلاثة ملايين طفل في حالة سوء تغذية تهدّد حياتهم مباشرة. كذللك دمّرت العاصمة والمدن الكبرى، وفتحت الباب واسعاً أمام تحشيد جهوي وإثني ينذر بانهيار النسيج الاجتماعي نفسه. أي منطق أخلاقي، بعد ذلك، يسمح بتغليف هذا الخراب بسردية “فرنسا المقاومة”؟
إن المقاربة العلمية والوطنية لا تقوم على الحياد السلبي، بل على موقف أخلاقي وسياسي نشط يتمثل في نزع الشرعية الكاملة عن الحرب، ورفض الانحياز لأي من أطرافها، وبناء جبهة مدنية عريضة مناهضة للحرب، بالتوازي مع دعوة المجتمعين الإقليمي والدولي إلى العمل الحازم لإنهائها، لا لإدارتها أو ترجيح كفة أحد أطرافها. فالتدخل المشروع ليس ذاك الذي يختار “فائزاً” في حرب خاسرة على الوطن، بل الذي يفرض مساراً يوقف القتال ويفتح أفق الانتقال المدني الديمقراطي.
وخلاصة القول إن أخطر ما في هذا التشبيه المضلل ليس سطحيته الفكرية، بل وظيفته السياسية: إطالة عمر الحرب، وتخدير الرأي العام، وتجفيف منابع التفكير في السلام. وإذا كان ثمة درس حقيقي يُستفاد من التاريخ الأوروبي الحديث، فهو أن الخروج من دوامات العنف لا يتحقق بعسكرة السياسة ولا بالتدخلات المنحازة، بل ببناء دولة ديمقراطية شرعية قادرة على احتكار العنف المنظم وتحقيق التنمية. وهذا يتطلب نزع شرعية الحرب بوصفه المدخل الضروري، بل الوحيد، لإنقاذ السودان وفتح الطريق نحو انتقال مدني ديمقراطي نهضوي.
1.Ibrahim Elbadawi and Nicholas Sambanis. 2000. “External interventions and the duration of civil wars”: https://scholar.google.com/citations?view_op=view_citation&hl=en&user=zFTreMoAAAAJ&citation_for_view=zFTreMoAAAAJ:g5m5HwL7SMYC
2.Sofia E. Mouritsen. 2020. “External Intervention and the Duration of Civil Wars”: https://cupola.gettysburg.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1874&context=student_scholarship
3. Sang Ki Kim. 2012. “Third-party intervention in civil wars: motivation, war outcomes, and post-war development”: http://iro.uiowa.edu/esploro/outputs/doctoral/Third-party-int24ervention-in-civil-wars-motivation/9983776973302771
4. Ibrahim Elbadawi. 2024. “Sudan’s Future between Catastrophic Conflict and Peaceful Renaissance Growth Trajectories: Long-term Growth Model Simulations“: https://erf.org.eg/publications/sudans-future-between-catastrophic-conflict-and-peaceful-renaissance-growth-trajectories-long-term-growth-model-simulations/٠
