سرديات ..الزاكي عبد الحميد أحمد
لاتستوحشو ا طريق الحق لقلة سالكية ..
هكذا قال علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، فاختزل بعبارته هذه، ما قالته مؤلفات عدة لشعراء ومفكرين كثر، عالجوا نفس الفكرة وإن تباينت الأساليب؛ ولم يكن دونالد ترامب بمستثنىً منهم!
في منصة أكس كتب الرئيس الأمريكي في اكتوبر الماضي عبارةً جعلت بعض النقاد يشيدون بما قال بل يدرجوا اسمَه، في قائمة الحكماء الذين ينيرون، بكلامهم، الطريقَ للآخرين ..
Following your convictions means you must be willing to take criticism from those who lack the same courage to do what’s right. It’s called:
The Road Less Travelled..
إن استمساكك بقناعاتك، يعكس رغبتَك، في مواجهة الانتقاد، الذي يستهدفك، من أولئك الذين تعوزهم الشجاعة، للقيام بما هو صحيح..وهذا ما يعرف بالطريق الأقل ارتياداً:
The Road Less Travelled..
الرئيس الأمريكي بمقولته هذه والتي شاعت؛ كان يدعو جماعتَه، إلى الثبات في معتقداتهم، حتى وإن كانت لا تروق للآخرين..أي المضي قدما في الطريق الأقل ارتياداً (الموقف الأقل شعبية)
لأنه فيما يرى، هو الطريق الصحيح!.
والطريق الأقل ارتيادا، والحث على طرقه، فكرة عالجها الشاعر الأمريكي روبرت فروست في قصيدة تحمل نفس الاسم: أي الطريق الأقل ارتياداً أو الطريق غير المطروق: The Road Not Taken..
الشاعر فروست وصديقه ادوارد توماس، وهو شاعر ايضا، كانا يسيران على طريق، فوجداه بعد مسير مسافة طويلة، مسدوداً، بغابة صفراء؛ ويتفرع إلى وجهتين يمين ويسار.. الصديق الشاعر تعتريه الحيرة في اي الطريقين يسلكان:
المطروق ام غير المطروق..
اتخذ فروست قراره وانطلق في الطريق غير المطروق، فكان الفرق في النتائج المذهلة التي أسفر عنها الطريق غير المطروق؛ وهي النتائج التي ضمنها في قصيدته وبعثها لصديقه لاحقا لتكون هاديا له في حياته..
الفكرة ذاتها عالجها محمود درويش في قصيدة أسماها “أثر الفراشة”..
في قصيدة درويش، لا تغيب عن ذهن القاريء الكريم، المقارنة بين أثر الفراشة والطريق الأقل ارتيادا:
أثر الفراشة؛ أهو الطريق غير المطروق..الطريق المجهول..الطريق عديم الملامح والاثر .. أليس هو الطريق المستوحش لقلة سالكيه؟
هل للفراشة أثر يبقى أثناء تنقلها من زهرة لأخرى؟
نعم!
لا!
أثر الفراشة لا يُرى!
أثر الفراشة لا يزول!
يدهشُك محمود دوريش بالنفي والايجاب في آن، ويتركك في حيرة من أمرك..أثر يُرى ولا يُرى! يراه الثابتون على القضية؛ القابضون على جمر الحق، رغم الانزياحات المقيتة، ولا يراه اللاهثون وراء المال، ضيقو الأفق، عديمو الضمير..
قصيدة “أثر الفراشة” من أجمل قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش لما فيها من عمق فلسفي وفيزيائي وأدبي:
هو مثل أغنية تحاول
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلال ولا تقول..
يا ااااه!
هذا الشاعر الشفيف يشبه أثر الفراشة بالأغنية التي تحاول البوحَ بالكثير، من الكلمات المقتبسة من الظلال، فتُخفي ما كانت تريد أن تقوله..
أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزول
اثر الفراشة لا يراه المخدوعون، لأنهم سلكوا الطريق المطروق (الذي يغر سالكيه بالوعد الخُلّب) وتركوا أثر الفراشة مندسا على كتف الطريق غير المطروق!
أثر الفراشة لا يرى!
أثر الفراشة لا يزول!
يكرر درويش هذا المقطع قائلا:
إن للفراشة أثراً لا تراه، ولكنه موجود في الوقت ذاته، فالفراشة وإن كانت صغيرة الحجم قد يظن الرائي أن لا أثرَ تحدثه في الكون، مع أنها على العكس من ذلك، تحدث تغييراً في الكون، قد لا تزول آثاره بل تبقى ذات تأثير على الكون كله! The Butterfly Effect! النظرية التي يعرف أسرارّها؛ المهندسون والفيزيائيون!
دخل بروفيسور، شاولا، القاعة وفجّرها داوية:
فشلت الحكومة الهندية بكل أجهزتها الحديثة، في اقتفاء أثر العميل الباكستاني الهارب، فيما نجح في المهمة الخوجي Khoji بايتاب سينج..
في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت المناوشات العسكرية بين الهند وباكستان، لا تتوقف على الحدود (كشمير) بين الدولتين النوويتين..
كنت موفداً حينها من وكالة السودان للانباء (سونا) لحضور دورة تدريبية مكثفة، في صياغة الأخبار باللغة الانجليزية، استضافت فيها العاصمة الهندية صحافيين من غانا ونيجيريا ومدغشقر وموريشس وسيشلز وبنما واندونيسا ومليزيا ومصر والسودان وسورية والصومال وسريلانكا والنيبال..
بروفيسور، شاولا، عمدة في مجال الصحافة على مستوى العالم، فالرجل يدرّس في عدة جامعات آسيوية واوروبية..حُظينا بأن تلقينا بعض العلم على يديه أثناء الدورة التدريبية التي امتدت قرابة العام..
قال العالِم في مستهل محاضرته تلك:
الخوجي، بايتاب سينج، درّبته اسرائيل، ولكن مَن درّبه كانوا عرباً يعملون لصالح اسرائيل.. نعم هذه المهنة لا يجيدها غير العرب، ولا أظن أنهم يجيدون غيرها! ابتسم الرجل ليخفف وطأة قوله علينا نحن أهل لغة الضاد ، مع ادراكنا التام بأنه يمقُت العرب، ويشيد بمواقف اسرائيل، في مطاردتها للفدائيين حيث فرّوا..
محمد العارضة و زكريا الزبيدي كانا ضمن المجموعة الفدائية التي انتزعت حريتها بحفر نفق داخل سجن جلبوع. أُسِر من المجموعة من أُسِر وتمكن العارضة و الزبيدي من الافلات ولولا قدرة عميل عربي يعمل لصالح اسرائيل، على اقتفاء الأثر لظل الفدائيان طليقين! هكذا جاءتنا الأخبار التي أشادت قبل أشهر بالفدائيين وقللت من ادعاءات اسرائيل البطولية..
عبد المجيد المزاريب من عرب فلسطين جندته المخابرات الاسرائيلية فغير اسمه إلى عاموس يركوني ليؤسس مع زميل عربي آخر اسمه حسين الهيب وحدة مخابراتية اسرائيلية باسم مرعول..
و مرعول كلمة عبرية تعني الملثم ولكن هناك من الباحثين مَن يعيدها إلى أصلها العربي، الذي يختصر جملة (ممر الرعاة الضيق عبر الجبال)..
مهنة لا يجيدها غير العرب، ولا يجيدون غيرها، هكذا قال بروفيسور شاولا فافحمنا غيظا، كما المرجل يغلي، في دواخلنا!
الخوجي Khoji كلمة أردية تعني قصاص الأثر..
وتعرّف المعاجم قص الأثر ب القيافة وقصّاص الأثر ب القائف..
و القيافة لغةً تعني تتبع أثر شخص او حيوان فنقول: قاف (يقتفي ) أثر فلان..
أما اصطلاحاً فإنها تعني الحاق الأولاد بآبائهم وأقاربهم، استنادا إلى علامات، وإلى شبه بينهم، والتعرف على نسب المولود، بالنظر إلى أعضاء جسمه وأعضاء والده..هذا كان شائعا في الجاهلية ونهى عنه الاسلام، وجعل موازين شرعية في كيفية الحاق الأبناء بآبائهم..
الحياة في الصحراء بقسوتها علّمت ساكنيها مهارات لا تتأتّى لغيرهم، فتفوّق مَن كان منهم من أهل الفراسة وقوة الذكاء والمعرفة والفطنة والتجربة، في القيافة (قص الأثر)..هناك فروق بين الآثار وموطيء الأقدام، تماما كما هي بين الناس في الطول والقصر، والسواد والبياض، والصغر والكبر..فانت ترى آلاف البشر ولا تجد فيهم اثنين متشابهين في كل الصفات..فهذا هو السبب الذي يؤسس لمهنة القيافة ويجعل اصحابها قادرين على تمييز الآثار والأشباه..
ويقول علماء الأدب العربي إن العرب في غابر زمانهم كانت لهم معارف عملية بدائية كانت حصيلة التجارب الفردية التي ينقصها الاستقراء ويعوزها التعمق..وشملت هذه المعارف فيما شملت الانساب والأخبار والكهانة والعرافة والقيافة والعيافة..
ففي الانساب والأخبار كان غير واحد من البدو يسلسل اجداده واحداً تلو آخر حتى ينتهي إلى أبي البرية آدم..وكان يذكر مآثر الاعلام من آبائه والمشاهير من أجداده، ليفاخر بهم في أسواق المفاخرة والمنافرة..
اما الكهانة والعرافة، فهما لفظان لمعنى واحد، وإن كان هناك من يقول بأن الكهانة تختص بالأمور المستقبلية، والعرافة بالأمور الماضية والمراد بهما، على كل حال، التنبؤ واستطلاع الغيب..
مهنة الخوجي و القائف وال tracker بدأت تتلاشى، اللهم إلا في البلدان التي تحف بها صحاري حيث تكون آثار الأقدام واضحة على الرمال..القيافة حلت محلَّها اليوم المسيراتُ المجهزة بأحدث وسائل التعقب والانصات..
ولكن مهما بلغت هذه الوسائل التقنية من تطور في تعقب الآثار، فإنها لن تستطيع تعقب أثر الفراشة حين تتنقل من زهرة لزهرة..هذا فن لا يعرفه إلا المبدعون:
أثر الفراشة:
هو شامة في الضوء توميء،
حين يرشدنا إلى الكلمات، باطنُنا الدليل..
هذا شعر يبدو حافلا بحزن عميق يسري هادئا، كحكمةٍ مكتسبة من شيب الروح وما تخمّر فيها..
لا تقرأ ما قاله محمود درويش عن أثر الفراشة بل اسمعه من ريم بنّا
