شيخ الأمين: ملاذ الأمان في قلب أمدرمان
محمد ضياء الدين
لقد حاولت مراراً أن أكتب عن مأثرة شيخ الأمين في العطاء والوفاء، وفي كل مرة أخفقت كلماتي في أن تفيه حقه. فهو رجلٌ تخجل أمامه الحروف، وقف شامخاً كالطود، ناذراً حياته وماله في خدمة الضعفاء والمحتاجين.
في وقتٍ إشتدت فيه المعاناة والألم، برز إسم شيخ الأمين كمنارةٍ وسط الظلام الذي خيّم على مدينة أمدرمان. في ظل الجوع والعطش والمرض والموت الذي تفشى جراء الحرب والحصار، وإنهيار كافة المرافق الخدمية، فتح شيخ الأمين قلبه ومسيده في حيٍ بيت المال ود البنا، الواقع بمنطقة عملياتٍ ملتهبة،في قلب أمدرمان الحبيبة، ليصبح ملاذاً لكل من لا مأوى له. قدم الرجل دعماً لا محدود للمحتاجين، من مأوى وطعام وعلاج، وتحول المسيد إلى خلية عمل تعمل ليل نهار لتلبية حاجات أهل المدينة، غير عابئ بالخطر الذي يحيط به.
المسيد لم يكن مجرد مكان للعبادة في تلك الأوقات العصيبة؛ بل صار مطبخاً ومخبزاً يوفر ثلاث وجبات يومياً، ومستشفى صغيراً وصيدلية تقدم الدواء مجاناً. كل هذا كان يتم بإشراف شباب متطوعين، وضعوا حياتهم على المحك لخدمة الناس، رغم القصف العنيف الذي كان يُحيط بهم.
من جهة أخرى تجاوزت جهود شيخ الأمين الحدود المعتادة، فلم تقتصر خدماته على الطعام والدواء، بل إمتدت إلى دفن الموتى في ظروف أمنية غاية في التعقيد.
رغم أن المسيد كان هدفاً للقصف عدة مرات، بقي شيخ الأمين ثابتاً، متمسكاً بإيمانه بأن الله يحميه. الكل يعلم أن الرجل كان يستطيع العيش بعيداً عن هذه المخاطر بفضل حاله الميسور، إلا أنه إختار البقاء مع أهل أمدرمان، وبشجاعة نادرة، كان حاضراً بين الناس، يقوم على الخدمة بنفسه، ويرسل شبابه الشجعان لتوزيع الطعام والماء والدواء على الأحياء الأكثر تضرراً حتى وصلت خدماته أحياء بانت، العباسية، والعرضة، في وقتٍ كانت فيه الدولة والمنظمات المحلية والإقليمية عاجزة عن تلبية إحتياجات سكان أمدرمان القديمة.
ورغم هذه الجهود الجبارة التي لم يستطع أحد مجاراتها، تعرض شيخ الأمين لهجوم إعلامي غير مبرر من بعض المغرضين. لكن هذا الهجوم لم ينل من عزيمته، بل إستمر في عطائه، متجاوزاً الإساءة ومركزاً على رسالته الإنسانية السامية. كما قال الله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ).
سيظل ما فعله شيخ الأمين درساً عظيماً في التضحية والكرم، محفوراً في ذاكرة أهل أمدرمان كمعلمٍ بارز، وأحد أهم المآثر الإنسانية التي ستبقى شاهدة على تلك الحقبة المظلمة من تاريخ المدينة.
ليس أمامنا إلا أن نرفع له أكف الدعاء، شاكرين مجهوده العظيم الذي لا يمكننا مكافأته عليه إلا بالدعاء.
سيظل ما قدمه شيخ الأمين شاهداً على شجاعته وإنسانيته. وكما قال الشاعر:
(إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرُومِ، فلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ).
هكذا كان شيخ الأمين، رجل الشرف الرفيع الذي بذل الغالي والنفيس في سبيل خدمة المحتاجين من أهل أمدرمان الذين لن ينسوا له هذا الجميل أبدا .