مصطفى خالد يكتب..”الانزياحاتُ الثلاثة للنصوص عند عبورها من لغةٍ إلى أخرى”

بقلم :مصطفى خالد

أكثر ما أثار انتباهي وأنا أراجع مخطوط الترجمة الإنجليزية لروايتي “هاها كح كح نجوت بأعجوبة” – والتي ستصدر بنسختيها العربية والإنجليزية مطلع ٢٠٢٦ عن دار عرب في لندن،  لم يكن تغيّر النبرة أو اختلاف الإيقاع السردي العام الذي صار أبطأ بطبيعة الحال ليخدم تركيبة اللغة التي عبر إليها، ولا حتى استبدال بعض الصور أو التراكيب بأخرى، بل كان شيئًا بسيطًا في ظاهره، لكنه غنيٌّ بالدلالات؛ أعني رقمًا صغيرًا أسفل يسار الملف، فالترجمة جاءت أطول بعشرة آلاف كلمة من الأصل. أعني، أن العمل قد أضيف إليه من الكلمات ما يعادل أكثر من نصفه حين عبر إلى سياقٍ لغويٍ آخر.

أقول، إن المتمعن في العربية يجد أنها لغة كثيفة، مشحونة، تستطيع أن تقول كثيرًا بالقليل، أن تكتفي بإشارة، أو حتى بكلمة واحدة تُسند المعنى كله إلى السياق، إلى ما يفهمه القارئ من مجمل ما يطوف بالجملة. أما الإنجليزية فهي في تركيبها ميّالةٌ إلى التحليل والشرح. لهذا كانت الترجمة مضطرة إلى أن تطيل، لا لأنها تعجز، بل لتُعيد بناء المعنى بطريقة أخرى، بلغة تحتاج دائمًا إلى خطوات إضافية كي تصل إلى ما تصل إليه لغتنا العربية بخفّة خاطفة. وهناك الكثير من التعابير المجازية في العربية لا تجد مقابلات مباشرة في الإنجليزية، والعكس، فيُضطر المترجم إلى “تفكيك المجاز” وتحويله إلى وصف، مثلاً، أقرأ بعض العبارات فأراها وقد تضاعف طولها، لا لأن المترجم بالغ، بل لأن الجملة الأصلية في قالبها اختزلت صورةً معقدة في جملة؛ كصورةٍ مجازية أو تركيبٍ ساخر أو إشارةٍ ثقافية، كل ذلك حين ينتقل من لغة إلى أخرى يحتاج إلى تفكيك وتركيب من جديد. جملة مثل “ضحك ضحكة كأنها سعال” تحولت في الترجمة إلى وصفٍ مفصّل للصوت، للنية، للإحساس الكامن وراء الضحكة، لأن العبارة في الأصل لا يجب أن تُنقل كما هي، بل يُعاد كتابتها من جديد لتحتفظ بوقعها.

وهناك أيضًا المرجعيات الثقافية الكبيرة والصغيرة — إشارة دينية، أو استعارة مأخوذة من موروثنا المحلي، أو جملة تنتمي إلى المحكية السودانية وزَوَاريبِها — كلها أشياء حين تترجم لا تذهب كما هي، بل تُفَلتَر عبر غربال طويل، إذْ حينًا تُشرح، وحينًا تُحذف، وحينًا تُحوَّل إلى ما يمكن أن يُفهم في ثقافة القارئ الآخر. وهذا كله يُراكم كلماتٍ، ويضيفُ شروحًا، يصوغُ جُملًا لم تكن في الأصل لكنها أصبحت ضرورية كي يصل النص الجديد إلى قارئ لا يعرف شيئًا عن السياق الأول.

ولا يقتصر الأمر على المجاز أو السياقات الثقافية فقط، بل يمتد إلى اللهجة باعتبارها مساحةَ انزياحٍ ثالثة، أعني العامّية التي كانت حاضرة في بعض المناطق بالرواية. هذه العامية، بكل خفّتها ومزاجها الشعبي، لا يمكن نقلها حرفيًا إلى لغة لا تملك نفس الخلفية، ولا نفس الذائقة. فإما أن تُستبدل بلغة بسيطة، أو أن تُترجم بروح أخرى، شيءٌ أقربُ ما يكون، لتحرّي الدقة، إلى مُعادلٍ تعبيري. وهذا أيضًا يحتاج إلى مزيد من الكلمات، وربما إلى إعادة هندسة النبرة نفسها.

أخيرًا، بعد هذه المساحة التأمُّلية، أجد أنّ الفرق في عدد الكلمات ليس تحصيلَ حاصلٍ لحساباتٍ رياضيّة، بل وثيقةٌ تبرهن أن اللغات ليست أوعيةً محايدة، بل أنظمةٌ حية تغيّر شكل كل ما يُقال فيها. وأن كل كلمة زائدة أو محذوفة في الترجمة، للمتأمِّل، هي في الحقيقة ثغرةٌ ناقصة في الفجوة بين اللغتين.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.