حرب سرقت أحلامي: كيف دفعت الحرب طلاب الجامعات إلى حافة الضياع؟
في صيف عام 2023، كان الطلاب السودانيون يستعدون لاستئناف دراستهم الجامعية، ولكن ما لم يكن في الحسبان أن مسار حياتهم سيتغير بشكل جذري. بدأت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وأصبح التعليم أحد الضحايا الرئيسيين لهذا الصراع. وفقاً لإحصاءات نقابة المعلمين، أكثر من 40% من مباني الجامعات والكليات تضررت جزئياً أو كلياً، بينما نزح نحو 8,000 معلم وأستاذ جامعي، ما يعادل أكثر من 22% من الكوادر التعليمية، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على جودة التعليم.
هذه الأرقام لا تعكس فقط تدمير المباني أو نزوح الأكاديميين، بل تشير إلى خسارة أحلام ومستقبل ملايين الطلاب. فالبيئة التعليمية في السودان، التي كانت تواجه تحديات حتى قبل الحرب، أصبحت اليوم في حالة يرثى لها. دراسة صادرة عن اليونسكو في 2023 أظهرت أن عدد الطلاب في الجامعات السودانية قد انخفض بنسبة 30% منذ بدء النزاع، مما يُظهر مدى عمق الأزمة وتأثيرها المستمر. في هذا التحقيق، يروي طلاب لـ«الغد السوداني» معاناتهم وتحدياتهم اليومية، ويكشفون كيف أثرت الحرب على مستقبلهم الأكاديمي والمهني.
رأى أحلامه تتبدد أمام عينيه
في صباحٍ رمادي من شهر أبريل 2023، كان “مبارك داؤد” يقف في ساحة جامعة الجزيرة، يتأمل مبانيها التي لطالما احتضنت أحلامه. كان طالباً في كلية الهندسة وتكنولوجيا الصناعات، تخصص هندسة نسيج، لكن ذلك اليوم لم يكن عادياً. أصوات القصف المتواصل من بعيد، وهروب الطلاب إلى مناطق آمنة، جعلاه يدرك أن الحرب قد أصبحت واقعاً لا مفر منه. كغيره من ملايين السودانيين، وجد “مبارك” نفسه في مواجهة مصير مجهول، حيث تعطلت الحياة الأكاديمية وتهاوت أحلامه أمام عينيه.
الجامعات تتحول إلى معسكرات والأحلام تتبدد
تسبب النزاع في إغلاق أكثر من 100 جامعة حكومية وخاصة، كما تحولت بعض الجامعات إلى معسكرات لإيواء النازحين. وكان “يوسف حمد النيل”، طالب الجيوفيزياء في جامعة البحر الأحمر، من بين هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه. قبل أسابيع فقط من تخرجه، توقف كل شيء. يقول يوسف لـ«الغد السوداني»: “كنا نعد العدة للامتحانات النهائية، لكن الحرب جعلت مستقبلي المهني في مهب الريح. من الصعب التركيز على الدراسة بينما تسمع أصوات القذائف في كل مكان”.
ومع استمرارية الحرب، لم يكن أمام العديد من الطلاب خيار سوى النزوح إلى دول مجاورة بحثاً عن الأمان. ولكن حتى في هذه الدول، كانت التحديات لا تقل وطأة. “محمد شريف أحمد”، طالب العلوم البيئية في جامعة النيلين، اضطر إلى مغادرة مدينته بحثاً عن منطقة آمنة. ورغم هروبه من القتال، إلا أن رحلة النزوح أضافت تحديات جديدة إلى حياته الأكاديمية. يقول محمد: “في ظل غياب المعامل والمختبرات، أصبحت الدراسة، خاصة في التخصصات العلمية، أكثر صعوبة”.
بينما توقفت الجامعات السودانية عن العمل بسبب الحرب، تشير الأرقام إلى أن أكثر من 40% من مباني الجامعات والكليات تضررت جزئياً أو كلياً. ووفقاً لنقابة المعلمين السودانية، نزح أكثر من 8,000 معلم وأستاذ جامعي، مما أدى إلى تقليص الكوادر التعليمية بنسبة تزيد عن 22%. كما أن دراسة أعدتها منظمة اليونسكو عام 2023 أظهرت أن نسبة الطلاب الملتحقين بالجامعات انخفضت بنسبة 30% منذ بداية النزاع.
التعليم الجامعي: أولوية غائبة وسط الحروب
مع اشتداد الحرب وتدهور الأوضاع الأمنية، كان “ساجد معتصم عبد الرازق”، طالب الهندسة الكهربائية في جامعة سنار، يواجه مصاعب جمة في محاولة مواصلة تعليمه. عندما سألناه عن الدعم الذي تقدمه الجهات التعليمية خلال الحرب، أجاب بسخرية: “لا يوجد دعم. حتى شبكة الإنترنت غير متوفرة بشكل جيد. نشعر بأن الجامعات باتت معسكرات للجيوش وليس للمؤسسات التعليمية”.
لا يقتصر الأمر على الطلاب فقط، بل الأساتذة أيضاً يعانون. فقد غادر الكثير منهم البلاد، فيما وجد الآخرون أنفسهم أمام خيارات محدودة. “التجاني أحمد”، طالب الجغرافيا في جامعة شندي، يقول لـ«الغد السوداني» إن غياب الأمان وتدمير البنية التحتية جعل التعليم مهمة شبه مستحيلة. “كيف يمكننا العودة إلى الدراسة في ظل غياب الأمان الكامل؟”.
الطلاب في الخارج: ملاذ مؤقت أم مستقبل دائم؟
على الجانب الآخر، لم يكن النزوح هو الحل الأمثل للعديد من الطلاب. “خالد محمد”، طالب في جامعة أمدرمان الإسلامية، لجأ إلى مصر مع عائلته، لكنه سرعان ما اكتشف أن التحديات لم تنتهِ عند حدود السودان. قائلا:”عدم توفر البيئة العملية ونقص المعامل إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الحرجة أدى إلى تأخير دراستي. أشعر بأن الحرب سرقت مستقبلي”.
أما “عثمان مختار إدريس”، طالب الهندسة المدنية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، فقد واجه صعوبات في التأقلم مع المنهج الأكاديمي الجديد. حيث قال لـ«الغد السوداني»”الاختلافات في المناهج والتحديات اللوجستية جعلتني أشعر بالحنين إلى الوطن، رغم صعوبة الوضع هناك”.
ورغم هذه الصعوبات، تبقى أحلام الكثيرين معلقة. “لنا محمد خالد”، طالبة في جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، أكدت لـ«الغد السوداني» أن التكيف مع الحياة الجديدة في مصر لم يكن سهلاً، لكنها عبرت عن تفاؤلها بمستقبل التعليم في السودان بعد انتهاء الحرب. قائلة :”الحياة ستعود إلى طبيعتها يوماً ما، ويجب علينا أن نكون مستعدين”.
أين الحل؟
في السياق قال الدكتور “قيس محمود” أستاذ في جامعة الجزيرة لـ«الغد السوداني» إن غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي قد يؤثر على مستقبل التعليم في السودان لعقود قادمة. “الحرب دمرت البنية التحتية، وفقدنا كوادر تعليمية مهمة. نحتاج إلى حلول مبتكرة مثل الاعتماد على التعليم الإلكتروني لتجاوز هذه الأزمة”.
في النهاية، تبقى الأزمة التعليمية في السودان جزءاً من الصورة الكاملة للدمار الذي ألحقته الحرب بالبلاد. الطلاب والأساتذة على حد سواء يعيشون في حالة من عدم اليقين، بين الحلم بإعادة بناء المستقبل والخوف من أن يكون التعليم آخر الأولويات في زمن الحرب.
لكن، كما قال “محمد صلاح الدين”، طالب المحاسبة بجامعة العلوم والتقانة لـ«الغد السوداني»: “إذا توقفت الحرب، سنكون أول العائدين إلى الوطن لإعادة بناء ما دمرته الصراعات. التعليم هو السلاح الأقوى، وسنظل نحارب من أجله”.