
حين تُضيء الكلمة وجدان الوطن… جدة تحيي الذكرى الأولى لرحيل هاشم صديق
الغدالسوداني _ جدة
في تلك الليلة التي بدا فيها الزمن كأنه توقّف عند عتبة الذاكرة، احتشد أبناء السودان في جدة لا ليقيموا فعالية عابرة، بل ليقيموا طقساً وجدانياً خالصاً في حضرة الشعر، وليخلّدوا ذكرى واحد من أنبل من حملوا راية الكلمة الحرة: الشاعر الكبير هاشم صديق الملك.
لم تكن الأمسية مجرّد حفل تأبين، بل أشبه باستفتاء روحي على المكانة التي يحتلها الراحل في القلب السوداني. فقد جاءت منظمة بعناية لافتة على يد مجموعة أصدقاء ومحبي مصطفى سيد أحمد بجدة، بقيادة الأستاذ عبد العزيز الكنزي، لتكون جدة محطة جديدة في سلسلة الفعاليات العالمية التي حملت عنوان: «في محبة هاشم صديق»، بعد 22 فعالية في 20 مدينة حول العالم، على أن تتواصل الرحلة بمحطتها القادمة في برلين.
ازدانت القاعة بوجوه النخبة من المثقفين والإعلاميين والرموز الاجتماعية، في صورة جماعية نادرة تعكس وحدة الذائقة السودانية حول رموزها الكبرى. حضر ممثلو الملتقيات الثقافية والروابط الاجتماعية والرياضية، وأسر الفنون، والشعراء، والإعلاميون، لتتحوّل الأمسية إلى مرآة صادقة لامتداد تأثير هاشم صديق في مختلف طبقات المجتمع.
افتتحت الليلة بتلاوة عذبة من الذكر الحكيم، لتنتقل بعدها الأجواء إلى مساحة الفن الثوري عبر مقتطفات من ملحمة «قصة ثورة»، التي قدّمها مجموعة من الفنانين الشباب بمصاحبة أوركسترا جدة، في لوحة موسيقية مشبعة بالحماسة والحنين، أعادت إلى القاعة وهج الأيام الكبرى التي كتب فيها هاشم كلماته بمداد الروح.
وفي كلمته المؤثرة، قال المهندس عبد العزيز الكنزي، رئيس مجموعة محبي مصطفى سيد أحمد بجدة:
“هاشم لم يكن شاعراً فحسب، بل كان ضمير شعب كامل، وحارساً للوعي في زمن العتمة… نصف قرن من النور زرعه فينا، وما زال صوته يعلّمنا كيف نقف بشجاعة أمام الظلام.”
توالت بعدها الأغنيات التي حملت توقيع الراحل، فأعاد الفنانون أداء أعمال خالدة مثل «النهاية»، «حاجة فيك»، و«يا جنا»، لتتجلّى الكلمات كأنها تُكتب من جديد على وجدان الحاضرين، وتتحوّل القاعة إلى مساحة مشتركة للذاكرة والحنين والانتماء.
لم تكن ليلة جدة مجرّد فعالية ثقافية، بل كانت شهادة حيّة على أن الشعر لا يموت، وأن من يكتبون للوطن يسكنون في ذاكرته إلى الأبد. هكذا مرّت الأمسية: هادئة في ظاهرها، عميقة في أثرها، وممتلئة بذلك الوهج الذي لا يصنعه سوى أولئك الذين يحوّلون الكلمة إلى وطن.
واختتمت الفعالية بإدارة أنيقة ومحترفة من الأساتذة محمد توفيق، أحمد الطيب، موسى خالد، وتسنيم سيف اليزل، الذين منحوا الليلة إيقاعها المتوازن، لتُسدل الستارة على أمسيةٍ أكدت من جديد أن هاشم صديق لم يرحل، بل انتقل فقط من دفاتر الورق إلى ذاكرة الناس.
