
سرديات: “بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنتِ”
بقلم: الزاكي عبد الحميد أحمد
قال صاحبنا: *بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت*..
*I’m a drop of nectar sweet, you are the full orange, ripe and at your best to meet!*
فذُهل كبيرُّنا من عمق المغزي وقال:
أبدع القائل فأسمعنا ما يذهل من جمال الحرف حين عرض علينا-بريشته- الوطن لوحةً؛ تستنطق الإنتماء والوحدة في التنوع، في أبهى الصور!
The poet has woven a beautiful tapestry of love and unity, leaving us in awe of his creativity.
أبو عركي البخيت حين يشدو؛ تكتسب المفردة الواحدة من شدوه؛ أبعاداً تتجسد أمام ناظريك رؤىً تتخيلها كيف شئت، بعد أن ظلت غائبة عنك، حين تشكّلت المفردة من صلصال الحرف، حرفاً تلو حرف، أول رسمها على الورق..
حين يغني أبو عركي، أشعر بالمفردة وكأنها تتهادى نحوي على ايقاع اللحن، لتنتشلني من وهدة الغياب؛ إلى وهج الحضور الزيزفوني الآسر، فأنتشي..دع أذنَك تحكم إن حاصرتك الشكوك في صحة ما أقول 👆!
*بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنتِ..*
مبلغ فهمي لهذا المقطع الطلي، كان يقتصر على أن الشاعرَ يعبرُ عن انتمائه لوطنه؛ بطريقته الشاعرية الباذخة الأثر على الأنفس؛ إنتماءٌ أشبه ما يكون بتلاحم القشرة مع لب البرتقالة..وكنت فرحاً بهذه الخلاصة التي أسعدتني؛ إلى أن أماط اللثام عن تقصيري عن سبر غور التخييل كما ينبغي، مستشرق، فكانت للمقطع قراءة أخرى..
*بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت*!
*I’m a drop of nectar sweet,*
*You are the full orange,* *ripe and at your best to meet..*
هكذا ترجمتُ هذا المقطع، ضمن ترجمتي لقصيدة *بعض الرحيق أنا،* لشاعرنا الكبير الراحل المقيم محمد المكي ابراهيم، ولكني ترددت كثيرا، قبل أن اعرضَها على مجموعة من مترجمات ومترجمين من العرب والعجم، شرُفتُ بالانضمام اليهم في قروب واتساب..
مرد ترددي كان خشيتي من ألا أوفي المعنى حقه؛ حين عرضت عليهم القصيدة المترجمة مبيّنا لهم، أن المقطع أعلاه، يجيء تعبيرا صادقا عن إنتماء الشاعر لوطنه في أبهى صور الإنتماء، تماما كتلك العلاقة التي تحتضن فيها البرتقالة الرحيق تحت قشرتها…
تعبير عن انتماء الشاعر لوطنه في أبهى صور الإتتماء..هكذا اتخذت هذا المقطع، دون غيره، مثالا لانتماء الشاعر لوطنه وعشقه له..
ولكن كان لكبيرنا الذي يعلمنا الترجمة، رأي آخر في اختزالي لمعنى المقطع في انتماء الشاعر لوطنه!
الشاعر في هذا المقطع لا يعبر عن إنتمائه لوطنه فحسب، وإنما ينادي بنفس القدر من الحماس، بالوحدة التي تجمع ابناء الوطن ثم يجعل من هذه الوحدة، الركيزة الأساسية لنهوض الوطن وارتقائه..
إسمعه يقول:
*بعض الرحيق أنا* (وليس كل الرحيق) بمعنى أن هناك أبعاضا أخرى لا يكتمل الرحيق إلا باندماجها معا؛ أي بمعنى آخر مثله من أبناء الوطن كثيرون وباجتماعهم على كلمة سواء ينهض الوطن؛ وهنا الإشارة إلى التنوع والاندماج -Diversity and Inclusivity كقاعدة صلبة ينطلق منها الوطن الخلاسي نحو الرقي بتفجير الطاقات..
هكذا سلّط دوغلاس، وهو كبيرنا الذي نوقره، الضوءَ، على ما كان مصدراً لترددي في عدم عرض القصيدة عليهم بسبب خشيتي من أن يكون فهمي للقصيدة قاصرا عن بلوغ المبتغى..
The orange’s flavor and aroma come from the combination of its various parts, like the juice, pulp, and peel. Similarly, the poet is emphasizing that Sudan’s strength lies in its diverse ethnic groups and individuals coming togethe to work collectively to build the nation.
البرتقالة لا طعم لها يكون، ولا نكهة، ما لم تضم تحت قشرتها، كلَّ مكوناتها، من لب ورحيق ونكهة وعصير..وهكذا ينبه هذا الشاعر العظيم بني قومه قائلا: أنا بعض الرحيق (ليس كلّه) وما لم تأت المكونات الأخرى التي تعطي البرتقالة طعمها ونكهتها، فلن تتشكل البرتقالة التي نريد وتريدنا الخلاسية (الوطن) أن نكون…!
هكذا قال دوغلاس، المستشرق البريطاني الذي، كلما حاولت ان أثبت له قدراتي (المتوهمة) في الترجمة، أبدو أمامه كقزم أمام عملاق..
فقلت له فوق كل ذي علم عليم، وارتضيت شاكرا بما قال..
أما قبل؛
فكان المبتدأ؛ وكان حضوره بيننا مبعث سعادتنا وزهونا المباح بما نجيد..
وكان الكلام حين فاض قمحا ووعدا وتمنٍ ! وكان استدعاءً ذا صلة، لذكريات مؤتلقات من آخر لقاء جمعنا بشاعرنا الكبير، ذات أمسية أم درمانية أصاخت السمع لما يقول وأجادت..
*بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت* عبارة جامعة شاملة لو اكتفى شاعرنا الكبير بها، وفق التحليل الذكي، الذي شنّف به آذاننا الناقد، نافذ البصيرة، الاستاذ *عادل سعد*، من ورقته التي شارك بها في احتفائية الليلة بعنوان: *فاعلية النشيد وبناء الصورة المشهدية*، لكان (ود المكي) قد أدى ما عليه؛ وقلّ أن يعلوه بشرٌ في التعبير عن الانتماء للوطن بهذه الحميمية، كيف يكون في أبهى صوره..
كان هذا التوحّد بين *القشرة واللب* هو لحظة الكشف والبصيرة النافذة التي تغني القاريء عن أطنان الكلام من رمال القول..
إنها جملة لا تُقرأ ولكنما تُرى رأيَ العين، وتنقلك في طرفة عين؛ من عالم الكلمات والسمع إلى عالم البصر والتخييل..
في السابعة والنصف من مساء الامس الأحد التاسع عشر من يونيو ٢٠٢٢ بدأ الكلام قمحاً ووعداً وتمنٍّ، في قاعة المحاضرات بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي ..كان انتماء صادقا، حميما للوطن..كان بيننا بوضاءته وبشاشته، النموذج الحي، لما يمكن ان يكون عليه الأديب متعدد المواهب، متنوع الاهتمامات، موسوعي الثقافة..
سعدنا نحن عشاق فنه، بلقاء الشاعر الكبير *محمد المكي ابراهيم*..
مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، جدير بالإشادة والتقدير فكرةً ومنهجاً واداءً..
مبعث الإشادة، أنه يمثل فكرة رائدة، مبدعة، تتجسد فيها نقلة نوعية حضارية في الاحتفاء برموزنا الفكرية..لو تنبهنا قليلا لمثل هذه الفكرة الابداعية، لكانت لنا الآن منظومة من المراكز الثقافية والاجتماعية تمثل الاحتفاء برموز، كان لها الأثر المتميز والباقي في الرفد والاضافة والتأصيل للفكر السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي السوداني..كم اهدرنا من القدرات، والطاقات والامكانات، في البكاء والتحسر على أيام سالفات..وكم انفقنا من الجدل العقيم حيال مواقف بعض الرموز السياسية والثقافية..المركز لبنة مباركة في صرحٍ؛ نتطلع ان يتسعَ بتضافر كل ابناء الوطن الخيرين ليشمل مراكز متعددة ومتنوعة تجسد اعتزازنا بعطاء الرموز المبدعة من ابناء الوطن في كل المجالات..
كان حضور الشاعر الكبير *محمد المكي ابراهيم* بيننا بالأمس تعبيرا صادقا وتجسيدا للوجه الانساني للثقافة من *روح للدعابة* و *رحابة للخيال* و *تسامح* و *بساطة* كما حددها *سير دوقلاس نيوبولد* السكرتير الاداري لحكومة السودان كمرتكزات للوجه الإنساني للثقافة The Human Side of Culture….
عشنا ليلة الأمس، الانتماء الصادق الحميم للوطن في كلمات شاعرنا العظيم *ود المكي*:
*عذراءٌ كقلب القمحة أمتُنا،*
*الألسنُ والشهواتُ هنا عذراء،*
*أجفانُ الناس مكحلةٌ بالعفة والإغضاء،*
*حتى صيحات اللذّة عند عواهِرِنا عذراء،*
*محض ثغاء،*
*في اعلى قمم الشمس فرشنا للأضياف موائدَنا،*
*وركزنا في أحشاء الأرض بيارقنا،*
*وتفيأنا نهر الدعوى وجبال العزة والنسيان،*
*وتواصينا:*
*دقوا طبول التمجيد لأمتنا،*
*غنوا للشعب ملاحم عزتنا…*
شاعرنا الكبير أشعرنا أن البحار مهما امتدت والفيافي مهما اتسعت؛ لا تستطيع أن تباعد بينه وبين وطنه لانه ارتبط حسا وروحا، ما يجعله يواصل التغريد زاهدا في غربته (ايام وجوده في اوروبا) راغبا في العودة:
*رياحكم ماسخة عجوز،*
*في بلدي نعطر الهواء بالمديح،*
*روائح الطعام والضيوف من بيوتنا تفوح،*
*والجارة التي يرفُّ بالشباب وجهُها الصبوح*
*يا عطرَها الشفيفِ ينشقُ النهارُ من شذاه،*
*اوّاه لو مرة أشمّهُ،* *أضمّهُ، المسهُ، أراه*
*اوّاهُ لو تفيد النازحَ الغريبَ آه..*
اما التعبير عن الانتماء *في خباء العامرية* فيجيء تجربة متميزة في بناء القصيدة المطولة بالقدر الذي يجعلها ديوانا قائما بذاته..
اختار الشاعر *العامرية* رمزاً للوطن لكي يتأتّى له، ان يجسّدَ في صور درامية كيف اختطفها زوارُ الليل، واسروها، واحالوا بذلك أمن المواطن، إلى خوف، حتى صار الوضعُ كأنه حلمٌ مرعبٌ يعيشُه الناسُ في نهارهِم وليلِهم:
*حلمٌ سيءٌ أم نهارٌ جديد؟*
*الرجال المهمون ينتشرون على باحة الدار،*
*يستحكمون على البهو،*
*خلف الرواق، لدى الباب،*
*يستعرضون تماريتهم ومهاراتهم في العبور،*
*إنهم يوقفون دمّي في شرايينه،*
*يوقفون الزمان الجميل..*
ولان الشاعرَ يلتصقُ التصاقاً حميماً بوطنه، يضنيه هذا القهر، فيحتجُّ ملءَ فيه، مندّدا ” *بالرجال المهمين*” الذين خطفوا *العامرية* وسرقوا كل شيء بالنصب والرشاوى والغش حتى ما عاد بامكان *العنادل* ان تغني في اطار هذا الوضع الرديء القاهر:
*كيف تقوى العنادل تحت سماء حديدية، على العندلة؟*
احتفى المشاركون بالشاعر الكبير بثلاث اوراق:
*سرديات ود المكي* للبروف *محمد المهدي بشرى*،
و *فاعلية النشيد في* *بناء الصورة المشهدية* للأستاذ عادل سعد،
و *تيار الغابة والصحراء مشروعاً في المقاومة الثقافية* للأستاذ حامد بخيت..
قصيدة بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت لا تقتصر فكرتها إذن على التعبير عن الإنتماء في أبهى صوره كيف يكون، وإنما تذهب أبعد عن ذلك لتحدثنا الخلاسية عن تنوعنا الثقافي كمصدر للقوة والنماء ولا كمصدر للضيق والضجر كما ينادي به البعض..
ثم انسدل الستار فأضاءت الظلمةُ جرحا لا يندمل برحيله بعيدا عن بلد أحبه..
رحل بعيدا فتنحنح النيل هازئا يوم حاصرته الالتياعات من كل فج عميق؛
فأتكأ على نخلة معرجنة طرحت لآلئا وكهرمان حين شكّلها من صلصال الحرف وسقاها من وريده حتى ارتوت فصارت له مرآة تواري القبح إذا أطل.
فالسلام عليك في عليائك يا من نهضت براية الوطن-الذي يسكنك- خفاقةً إلى عروش الشمس، حيث يكون لغيابك حضوره المؤتلق بين النجوم الباذخة السموق..
