
الزاكي عبد الحميد يكتب.. “سرديات”
أصابنا خوف عظيم في ذلك الصباح؛ حين دخل ناظر المدرسة الوسطى (مدير المدرسة الاعدادية بلغة اليوم) فصلنا..الناظر لا يدخل فصلا من الفصول؛ الا وكان وراء زيارته أمر جلل؛ خاتمته عقاب في الغالب..ولكن زيارته في ذلك الصباح لفصلنا؛ كانت مختلفة…
بتزكية من مدرس اللغة العربية؛ جاء المدير ليهنيء زميلا لنا؛ شارك بموضوع في الجمعية الأدبية؛ نال استحسان الحضور من اولياء أمور التلاميذ وغيرهم من مسؤولي التربية؛ الذين جاءوا تلبية لدعوة من مدير المدرسة؛ لحضور الجمعية الادبية؛ والتي كانت نشاطا فعالا؛ لصقل مواهب التلاميذ؛ في تلك السن الباكرة؛ في امور شتى؛ منها توسبع المدارك المعرفية والتشجيع على ممارسة فن مخاطبة الجمهور ..
زميلنا عبد الرحيم؛ كان أميزنا في كل المواد؛ بل كان يبز منافسيه في بعض الالعاب الرياضية..
شارك عبد الرحيم في تلك المناسبة المحضورة؛ بحديث عن الكد والاجتهاد كموقومات أساسية للنجاح وتحقيق المرام..ختم عبد الرحيم حديثَه؛ ببيت شعر يقول في عجزه:
*من طلب العلا سهر الليالي..*
عبارة لم نسمع بها من قبل وأعجبنا بها حين عرفنا معناها لاحقا وبدأنا نستعملها حتى كادت تفقد بريقها لكثرة الاستعمال..
في ختام زيارته لفصلنا؛ قدم ناظر المدرسة قلم تروبن هدية لعبد الرحيم..كانت تلك المرة الاولى التي نشاهد فيها قلم تروبن بلونه الأسود الصقيل..
*من طلب العلا سهر الليالي* عجز بيت قاله الامام الشافعي؛ ضمن ابيات اخريات؛ سارت به الركبان من بعده؛ مثلا يُضرب في الحث على الاجتهاد لتحقيق الهدف المنشود..
قال الامام الشافعي:
*بقدرِ الكدِّ تُكتسبُ المعالي،*
*ومن طلب العُلا سهِر الليالي،*
*ومن رامَ العُلا من غيرِ كدٍّ،*
*أضاع العمرَ في طلبِ المُحال،*
*تروم العزَّ ثم تنامُ ليلاً*
*يغوصُ البحرَ من طلب اللآلي..*
فهمنا في المدارس؛ أن معنى ذلك هو ان المرء يريد أن يبلغ العزةَ والسؤددَ دون أن يبذل في سبيل ذلك شيئاً، بل ينامُ قريرَ العين فينتشله الشافعي من وهدته قائلا: *اوَ ما علمت أن مَن يطلبُ اللآلي لا بد له من غوص البحار*؟..
كان ذلك حد علمنا بما قصده الشافعي بقوله: *من طلب العلا سهر الليالي* ..
اكتفينا بذلك تفسيرا للمثل الشائع ثم مرت السنوات..
فتساءلنا:
*الا يفهم من ذلك أيضا أن من طلب العلا سهِر الليالي من الهموم..؟*
ترجمة قول الإمام *الشافعي* إلى الانجليزية تكون كالتالي:
*He who seeks higher positions*
*Stays awake at nights*..
في النص الانجليزي يكون تساؤلنا قائما كذلك، أي شرح بيت الامام الشافعي بشقيه *الايجابي*:
أي الحضُّ على الكدِّ لتحقيق المعالي
وبشقه *السلبي*:
اي مَن تحقق له ما أراد، جافت عينُه النومَ مِن الهموم..
*شكسبير* في مسرحية *الملك هنري الرابع* يقول:
*Uneasy lies the head that wears a crown!*
*أي الهموم لا تفارق الهامة التي اعتلاها تاج!*
ويمضي قائلا:
How many thousands of my poorest subjects ,
Are at this hour asleep! O sleep! O gentle sleep!
Nature’s soft nurse, how have I frightened thee,
That thou no more wilt weigh my eyelids down,
And sleep my senses in forgetfulness
*كم بائس ومعدم فقير،*
*كم ألف بائسٍ من شعبي الكبير،*
*قد نام ناعما بالاً وجفنه قرير..*
*يا أيها الكرى؛*
*يا أيها النوم الرقيق الحاشية،*
*يا خفقة التحنان في جفن الطبيعة،*
*كم مرةٍ راعك ما راعك مني فلذتَ بالفرار،*
*وعفتَني، هجرتَني، فلن تعودا،*
*لن ترخيَّ الجفنين في الليل سباتا..*
يصور لنا *شكسبير* الملك *هنري الرابع* هنا وحوله امبراطورية واسعة مترامية الاطراف، وتاجٌ رُصِّع بالعظمة والجلال، يلتمع في عيني مليك يخفق قلبُه بحب عرش شامخ، عنت له الرقاب وتطامن له جبين الدهر، حتى إذا بلغ الملك من المُلك أوجَه ومن العمر أرذلَه، بدأ نجمُه في الأفول، وعجز عن إدارة دفة السياسة فبدأت الامبراطورية تتداعى:
اراض في الخارج تنتزع منها وفوضى اجتماعية عارمة تدبُّ في داخلها، ورجال الدين يتمردون على الملك ويتدخلون في السياسة..
الملك *هنري الرابع* كما يصوره لنا شكسبير هنا، يخشى ان يضيعَ منه التاجُ، الذي كان يحرصُ عليه أشد الحرص، فتنتابه الهمومُ وتقض مضجَعه الوساوسُ، فيستحيل على جفنيه أن يطبُقا وعلى قلبه الواجف أن يهدأ، فنراه يستجدي النوم اغفاءةً، والنومُ حَرون..
*Uneasy lies the head that wears a crown..*
أي *الهموم تقلق الهامة التي يعتليها تاج* وهي ذات المعنى حين نقول *من طلب العلا سهِر الليالي*! ولكن بالبعد السالب للمثل الشائع بشقه الايجابي دون المعنى الكامن!
This interpretation adds a new layer of meaning to the phrase. It suggests that the pursuit of higher positions can lead to increased stress, anxiety, and worry, which can keep one awake at night.
وهكذا ينبغي ان يُفهم ما قاله الشافعي كذلك! اي:
The double- edged nature of ambition!
أي فهم الطموح بشقيه الايجابي والسلبي…
