“البوكو”.. السوق الذي يحول ملكية أراضي نيالا بتوقيع البنادق

الغد السوداني _ دارفور24

لم يتوقع مهند عثمان أن يتحول غياب أسرته القسري عن منزلهم بحي المطار في نيالا إلى فرصة لبيع المنزل نفسه. فبينما كانت عائلته تبحث عن الأمان بعيدًا عن الحرب، كان سماسرة يستغلون خلو المنزل ويزورون عقد الملكية المسجل باسم والده، ثم يعرضونه للبيع مقابل 100 مليون جنيه، قبل أن يهبطوا بالسعر إلى 60 مليون فقط—رقم لا يساوي حتى قيمة قطعة أرض غير مبنية في الحي ذاته.

يقول مهند لـ(دارفور24) إن ما منع وقوع الجريمة هو الصدفة وحدها، فقد تعرف المشتري المحتمل على اسم والد مهند وقارن بين الأسماء، لتنكشف محاولة البيع قبل إكمالها. بالنسبة لمهند، لم تكن الحادثة مجرد محاولة احتيال، بل كانت إعلانًا صريحًا عن فوضى الأراضي في المدينة، حيث أصبح غياب أصحاب المنازل بسبب الحرب ثغرة يستغلها سماسرة وجهات نافذة للتلاعب.

كانت تلك الحادثة واحدة من عشرات الحالات التي بدأت تتكشف تباعًا في مدينة نيالا، وتشكل اليوم مدخلًا لفهم شبكة واسعة من التزوير والتلاعب في عقود الأراضي والساحات العامة منذ سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة في أكتوبر 2023.

شبكة تزوير واسعة بعد سيطرة الدعم السريع

تقول مصادر وسكان محليون إن عمليات التزوير لم تقتصر على المنازل الخالية بسبب الحرب، بل شملت ساحات عامة ومربعات سكنية احتياطية ومراكز خدمية، جرى تحويلها إلى قطع سكنية والتصرف فيها عبر نافذين في الإدارة المدنية التابعة لقوات الدعم السريع. ووفق إفادات متطابقة، فقد بدأ التلاعب بعد سيطرة القوات على المدينة، حيث جرى تخطيط الساحات العامة المخصصة للأندية الشبابية والملاعب والاحتياطي الحكومي، وهي مساحات ظلت لعقود جزءًا من البنية المجتمعية للأحياء.

اعتقال مسؤولين ووسطاء

ومع تزايد الشكاوى من المواطنين، رصدت الإدارة المدنية بمدينة نيالا في يوليو الماضي معلومات دقيقة حول نشاط مجموعات متورطة في تزوير شهادات البحث والعقود الرسمية. وأسفرت المتابعات عن توقيف عدد من الموظفين والوسطاء داخل وزارة البنية التحتية وإدارة الأراضي.

وتشير إفادات مصدر مطلع تحدث إلى (دارفور 24) إلى توقيف مدير مكتب المدير العام، ومدير إدارة الأراضي، ومدير الاستثمار، ومدير أراضي نيالا شمال، ومفتش الأراضي، إلى جانب محامين وسماسرة معروفين في السوق. نُقل الموقوفون إلى سجن دقريس، وما يزالون قيد الاحتجاز على خلفية اتهامات بتزوير عقود وبيع أراضٍ في مناطق واسعة جنوب وغرب وشرق المدينة، إضافة إلى ثلاثة ميادين عامة وأجزاء من قشلاق الشرطة قرب ديوان الزكاة.

وبحسب مصادر داخل الإدارة المدنية، فضّلت حجب هويتها، فإن المسؤول الأبرز عن عمليات البيع والتزوير هو ضابط إداري تم توقيفه في السوق الشعبي وبحوزته 300 عقد منزل جاهز للبيع، قبل نقله إلى سجن دقريس.

وفي شمال نيالا، يقول عبد الفتاح إبراهيم يحيى من حي الثورة إن ضابطًا برتبة عقيد استولى على مساحة واسعة من ميدان الحي وبدأ في حفر الأساس قبل أن يتدخل السكان ورئيس الإدارة المدنية يوسف إدريس لإيقافه. ويضيف أن بعض الساحات أُحيطت بغرف صغيرة تحت مسميات دينية مثل الخلاوي، لتتحول لاحقًا إلى منازل خاصة.

وفي حي المدينة المنورة، تحدثت إسراء محمود عن بناء منازل جديدة على قطع تخص سكان الحي على امتداد طريق الكنغو رمالية، مؤكدة أن نافذين في الدعم السريع وزعوها على أقاربهم بعقود رسمية، وأن أسعار الأراضي ارتفعت من نصف مليون إلى أكثر من خمسة ملايين جنيه خلال عام واحد.

وتؤكد ست إفادات متطابقة أن قوات الدعم السريع استولت على منازل قشلاق الجيش غرب المدينة وبدأت في تأهيلها وبيعها لأفرادها، كما سجلت منازل قشلاق الشرطة شمال السوق الكبير لصالح ضباطها. ورغم تبرير بعض القيادات بأن هذه المساكن ستخصص للجرحى وأسر القتلى، تشير مصادر أخرى إلى تدخل حاكم إقليم دارفور في حكومة تأسيس الهادي إدريس لإيقاف التعاملات إلى حين مراجعة الوضع.

قرار من بورتسودان

في خضم اتساع عمليات التزوير والاستيلاء على الأراضي، أصدرت حكومة بورتسودان ممثلة في والي جنوب دارفور، بشير مرسال، قرارًا في 28 أكتوبر 2024 يقضي بإيقاف وإنهاء تكليف 67 موظفًا في وزارات المالية والتخطيط والصحة والتربية، وإحالتهم إلى التحقيق في قضايا تتعلق بالفساد والتصرف في استثمارات الأراضي والعقود الحكومية.

ورغم أن الجهة التي أصدرت القرار لا تبسط سيطرتها فعليًا على نيالا منذ أكتوبر 2023، فإن الخطوة بدت أشبه بمحاولة لإظهار حضور إداري في ظل سيطرة الدعم السريع على مؤسسات المدينة.

وعلى ما يبدو، فإن القرار يحمل بعدًا سياسيًا أكثر من كونه إجراءً قابلًا للتنفيذ، إذ تتم معظم عمليات البيع والتزوير تحت إشراف قيادات تفرض سلطتها على الأرض، ما يجعل تنفيذ القرار داخل نيالا شبه مستحيل.

وبالمقابل، تشير معلومات إلى أن أمين الحكومة ونائب الوالي، صلاح أحمد الموج، كون لجنة جديدة لإدارة التخطيط العمراني تحت ضغط مباشر من ضابطين في قوات الدعم السريع، حيث أدى أعضاء اللجنة القسم أمامهما، وتولى لاحقًا علي محمود شرارة إدارة وزارة التخطيط العمراني.

سوق “البوكو” تجارة العقود المزورة

يشير موظف في الوزارة – عرّف نفسه باسم مستعار هو سليمان لدواعٍ أمنية – في حديثه لـ(دارفور 24) إلى أن العقود الأصلية محفوظة بأرقام متسلسلة داخل إدارة فنية متخصصة، وأن تزوير العقود المزدوجة لا يتم إلا عبر موظفين داخل الوزارة مقابل مبالغ مالية أو عبر سماسرة، موضحًا أن سوقًا غير رسمي يعرف باسم “البوكو” يمثل المركز الرئيس لبيع العقود المزورة. وتضم الوزارة أكثر من 700 موظف، إلا أن أقل من 40 منهم استمروا في العمل بعد سيطرة الدعم السريع.

وظهر مصطلح “البوكو” في بدايات الألفية بغرب السودان، خصوصًا في دارفور، مع انتشار السيارات القادمة من دول غرب أفريقية و ليبيا بلا أوراق رسمية. كانت تلك العربات تباع بأسعار منخفضة جدًا مقارنة بالسوق المحلي، فأطلق عليها الناس اسم “بوكو” للدلالة على أنها بلا جمارك أو “مضروبة”. ومع مرور الوقت، اتسع استخدام الكلمة ليشمل أي سلعة تُباع خارج الأطر القانونية أو دون مستندات معتمدة.

منزل واحد… وثلاثة عقود

وفي مناطق مختلفة شمال وجنوب المدينة، تحدث مواطنون عن تحويل مربعات واسعة من الساحات العامة إلى خطط سكنية جديدة. وذكر عضو سابق في لجنة التغيير والخدمات لـ(دارفور 24) أن مساحة كبيرة مخصصة لمركز شباب حي الأندلس جرى تحويلها إلى منازل مقابل مبالغ زهيدة جدًا مقارنة بأسعار الأراضي في المنطقة.

وفي سوق الأراضي، يؤكد السمسار حسين آدم أن التلاعب في تسجيلات الأراضي قديم لكنه تفاقم مع الحرب، حيث ظهرت عقودات مزورة في مربعات متعددة، ويجري بيع منازل دون أوراق تثبت الملكية. ويوضح لـ(دارفور 24) أن لكل منزل ثلاث نسخ من العقد واحدة في المحكمة، وأخرى في الأرشيف، وثالثة لدى المالك، وأن حصول أي شخص على إحدى النسخ يتيح إمكانية تزويرها وبيعها في السوق، خاصة بعد توقف محكمة التسجيل التي كانت تفرز العقود الصحيحة من المزورة.

اتهامات للإدارة المدنية

ومع توسع الظاهرة، بدأ سكان المدينة يوجهون اتهامات مباشرة للإدارة المدنية بتوزيع الساحات العامة والتواطؤ مع المزورين، بينما نفت الإدارة في بيان رسمي بيع أي ساحات عامة، وأكدت وقف العمل في الإدارة منذ مايو. كما ألغت عقودًا أُبرمت في مواقع شمال مدرسة حي المجلس وأخرى غرب مدرسة الشمالية.

ووفقًا لمسؤول في محلية نيالا شمال – فضل عدم الكشف عن اسمه – فإن الفساد كبير ومثبت بالأدلة، وأن عددًا من المتهمين موقوفون داخل الحراسات، بينهم مسؤولون في البنية التحتية. وأوضح أن ضباطًا في قوات الدعم السريع هم الأكثر تورطًا في الاعتداء على الأراضي، إلى جانب شخصيات أخرى قيد التحقيق.

غياب الرد الرسمي يفتح الباب لأسئلة أكبر

بناءً على ما توفر لدينا من معلومات وشهادات، وجهت (دارفور 24) سلسلة من الأسئلة إلى مدير وزارة التخطيط العمراني، علي محمود شرارة، للاستفسار حول أسباب توقيف عدد من مديري الإدارات والموظفين، وحقيقة الاتهامات المتعلقة بتزوير العقود وشهادات البحث، إضافة إلى ما تردد حول ضبط عقود جاهزة للبيع، وشبهات التدخلات في تشكيل لجنة التخطيط الجديدة، فضلًا عن الشكاوى المتعلقة بالاستيلاء على الساحات العامة ومربعات متعددة داخل المدينة.

كما طلبنا توضيحات حول ما يُثار عن تورط أفراد من داخل الوزارة ومن خارجها في عمليات تخطيط وبيع غير مشروع للأراضي، ودور قيادة الدعم السريع في التعامل مع الاتهامات، وما إذا كانت هناك قائمة رسمية بالأشخاص الذين يواجهون تحقيقات في هذا الملف.

وقد تواصلنا مع شرارة أكثر من مرة، وانتظرنا رده لأكثر من أسبوع. ورغم وعوده المتكررة بالتعليق على ما ورد من أسئلة، واستمرار متابعتنا معه على مدى أكثر من عشرة أيام، إلا أننا لم نتلق أي رد حتى لحظة إعداد هذا التقرير.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.