دعوة للتوافق على “ميثاق وطنى” جامع
بقلم: وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي
مقدمة:
قد حان الوقت لأن تتداعى القوى المدنية الديمقراطية – السياسية منها والاجتماعية – للتفاكر حول ميثاق وطني يحظى بتوافقٍ عريض. وبرأيي، ينبغي أن يكون هذا الميثاق واضح المعالم، مزوداً بهياكل وآليات تنفيذ ومعايير لقياس الأداء. وفي هذا السياق أطرح مكوّنات للميثاق المقترح تندرج ضمن مصفوفتين ممرحلتين من الأهداف الوطنية الكبرى
أولاً، إنهاء الحرب والتصدي للأزمة الإنسانية الناجمة عنها عبر عملية إصلاح أمني شامل وبناء عدالة انتقالية مهنية، تُنهي عسكرة السياسة والاقتصاد، وتعيد توازن القوى لصالح مشروع الانتقال المدني السلمي الديمقراطي النهضوي؛ أي تقوية المجتمع وقواه الحية بحيث تدخل “الحالة السودانية” ذلك “الممر الضيق” نحو الانتقال المنشود.
ثانياً، التموضع والثبات في هذا الممر وإنهاء “المتلازمة السياسية”(1)، صعوداً نحو معادلة كسبية بين الدولة والمجتمع تؤسس لدولة قوية مقتدرة ومسائلة أمام مجتمع متماسك، بما يمكّنها من تحقيق تحولات تنموية واسعة ومستدامة تعالج جذور الصراع والتخلف الاقتصادي والاجتماعي.
لقد قدّم تحالف “صمود” وحزب الأمة وبعض القوى المدنية الديمقراطية الأخرى مبادرات مهمة لإنهاء الحرب وبناء السلام، غير أنّ الرأي العام يشير إلى حاجة متزايدة لرؤيةٍ وفعلٍ سياسيِ واجتماعيِ أكثر وضوحاً وتأثيراً، طرحاً للأسئلة الحرجة ومقاربةً لها بموضوعية بعيداً عن الأدبيات الرمادية أو العموميات البديهية. ولا شك أن “المبادرة الرباعية”، وما أعقب لقاء الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب من ترفيع قضية إنهاء الحرب إلى مصاف الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، قد فتحت نافذة مبشرة للشعب السوداني وقواه المدنية. غير أنّ السلام، بوصفه استحقاقاً وطنياً، يقتضي التعامل مع المبادرة الرباعية وجهود ولي عهد المملكة باعتبارها وسائل داعمة وليست في ذاتها مشروعاً كاملاً لبناء السلام وتحقيق الانتقال الديمقراطي النهضوي المنشود.
عليه، على القوى المدنية الديمقراطية التوافق على ميثاق وطنى وازن والعمل على توظيف المبادرة كرافعة تحت سقف هذا المشروع. إذا لم يتكون فعل وطنى قوى وجامع ستفشل هذه المبادرة لا محالة، ليس فقط بسبب الفعل المعاكس من معسكر الحرب “الإسلاموى” وتوابعه، بل أيضاً لمخاطر إضطرار دول الرباعية فى حالة غياب أو ضعف الفعل المدنى الديمقراطى إلى الركون للحلول الآنية بحسب نظام “الوضع الطبيعى الجديد:the new normal “، الذى تتمثل أهم مرتكزاته فى الإكتفاء بإنجاز “السلام السلبىnegative peace: ” و “تسليع السلام” فى سياق صفقات وتفاهمات لإقتسام السلطة بين النخب العسكرية وقوى مدنية “افتراضية” وأيضاً بينها وبين مصالح أجنبية فى سياق إتفاقيات غير متكافئة تقضى على القليل المتبقى من السيادة الوطنية المنتهكة أصلاً (2).
المصفوفة الأولى من أهداف الميثاق الوطنى:
تحديداً، فى سياق مصفوفة الأهداف الاستراتيجية الأولى، هناك محورين أساسين: الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية، باعتبارهما ركيزتين لأي انتقال ناجح(3). مهام بناء السلام الأساسية تبدأ بالطبع من إنهاء الحرب والنهوض بالعمل الإنسانى وإعادة الخدمات الأساسية وكذلك الشروع فى إنفاذ برامج الإصلاح العسكرى-الأمنى وإعادة هيكلة القوات النظامية جنباً إلى جنب مع بناء منظومة عدلية ذات مناقبية مهنية عالية، تبتدر مهامها بمعالجة ملف العدالة الانتقالية مستهدية بما يتوافق عليه أهل السودان فى هذا الشأن. إنجاز هذه الأهداف سيؤدى بالضرورة إلى إجتثات عسكرة الاقتصاد والسياسة، الأمر الذى لا محالة سيحقق هدف بناء جيش مهنى يخضع للإدارة المدنية التى تترتب على الإنتقال المدنى المتوافق عليه. هذه المصفوفة من الأهداف معنية بتعديل توازن القوى لصالح المجتمع.
غير أن تحقيق هذه الأهداف يواجه مخاطر جسيمة ينبغي للقوى المدنية التنبه لها والتعامل معها بوضوح وحسم داخل الميثاق الوطني المقترح. وتبرز في هذا السياق عدة أسئلة مركزية، من بينها:
كيف يمكن ضمان عدم مشاركة القوات العسكرية والمليشياوية في أي ترتيبات سياسية خلال الفترة الانتقالية، رغم أن وقف الحرب سيتحقق عبر التفاوض مع هذه القيادات ذاتها؟
كيف يمكن تجنب إعادة إنتاج المؤسسة العسكرية-الأمنية بمثالبها القديمة في العقيدة المهنية والاختلال الجهوي والإثني الراسخ منذ تأسيسها، خاصة أن بعض القيادات العسكرية تتحدث عن أنها الأقدر على تولى هذا الإستحقاق الهام؟
كيف يمكن اجتثاث البنية المؤسسية والأخلاق المهنية المختلة للمؤسسة العدلية، والتي تكرست طوال ثلاثة عقود في عهد نظام الإنقاذ؟
ما صيغة العدالة الانتقالية التي توازن بين المحاسبة وجبر الضرر من جهة، ومنح خروج آمن معقول للقيادات العسكرية والمليشياوية من جهة أخرى، باعتباره ثمناً ضرورياً لطي صفحة الحرب؟
التصدى لهذه الأسئلة – وربما أيضاً أخرى فى نفس السياق – إستحقاق بالغ الأهمية على القوى المدنية الديمقراطية مقاربته وبناء موقف موحد بشأنه وتضمينه فى الميثاق الوطنى المقترح. أيضاً، فى سياق التصدى لهذه الأسئلة، كنت طرحت سؤالاً فى مكان آخر ، برأى، من الأهمية بمكان عن لماذا يصبح الدور الأممي ضرورة استراتيجية لتحصين وتعزيز مشروع القوى المدنية الديمقراطية لتحقيق أهداف الانتقال المدنى الديمقراطى فى البلاد؟
كرأى للنقاش، كنت طرحت فى مقال سابق(4) بعض الدلائل عن أهمية دورٍ فاعلٍ للأمم المتحدة كداعم للمشروع الوطنى فى هذين المحورين يتمثل فى عدة مهام يمكن أن تساعد فيها المنظمة الأممية:
ضمان اعتماد المعايير العالمية في الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية لتفادي حلول شكلية تعيد إنتاج ذات العقيدة المهنية والمؤسسات المعطوبة التى أعاقت المشروع الوطنى ؛
توفير مظلة شرعية متعددة الأطراف للحد من المصالح الضيقة والتدخلات الإقليمية، وضمان استقلالية القرار الوطني؛
الدور الحيوي للأمم المتحدة كحائط صد ضد تمرير الأجندات والإتفاقيات غير المتكافئة
تمكين القوى المدنية من الانخراط في تقديم العون الإنساني ودعم القدرات المؤسسية والإدارية للمنظمات الوطنية الطوعية والحكومية فى سياق تطوير شراكات مع منظمات أممية ودولية
صياغة ميثاق للشفافية والمساءلة، وإنشاء منصات تنسيق وطنية، بما يجعل هذه القوى شريكاً ميدانياً مؤثراً وليس مجرد قوة تفاوضية.
المصفوفة الثانية من أهداف الميثاق الوطنى:
إلّا أنّ مشروع البناء الوطني لن يكتمل من دون التوفّر على برامج وأدوات تُعزِّز قدرة المجتمع (أي القوى المدنية الديمقراطية) على معالجة الثلاثية المدمِّرة التي تسببت في انتكاس الانتقالات الديمقراطية في السودان(5).
الاستقطاب السياسي الحاد وغياب “الوفاء للمواثيق”.
إصرار النخب الأمنية-العسكرية على مواصلة الاستحواذ على الموارد الريعية الاقتصادية، وتوظيف “الشعبوية الاقتصادية” و”الأبقار الأيديولوجية المقدسة” في مقاربة الأزمات الاقتصادية للأنظمة الشمولية المزالة، كما كان الحال بعد ثورة ديسمبر المجيدة.
ضعف مؤسسات التحكيم الرسمية والمجتمعية في معالجة تضارب المصالح وصراع الرؤى.
وبرأيي، إضافةً إلى مشروعي الإصلاح الأمني وإعادة بناء القوات النظامية من جهة، وإعادة بناء المنظومة العدلية من جهة أخرى، فإن معالجة هذه الثلاثية تستدعي إحاطة العقد الاجتماعي للميثاق الوطني المنشود بخمس قضايا محورية. ونوردها أدناه في هيئة أسئلة وإجابات محتملة تنتظر التغذية الراجعة في سياق الحوار المؤدي إلى صياغة الميثاق المرتجى.
أولاً، لماذا الحاجة إلى “شرعية اقتصادية” إلى جانب “الشرعية السياسية” لتحقيق مشروع نهضوى من أجل مخاطبة جذور أزمة المشروع الوطنى وتحقيق السلام المستدام في السودان؟(6)
يحتاج السودان، في مرحلة ما بعد الحرب، إلى تبنّي شرعية اقتصادية تُساند الشرعية السياسية لأن البلاد مقبلة على لحظة انتقالية خطيرة ذات أبعاد وجودية، لا يكفي فيها الاتفاق السياسي وحده لبناء دولة مستقرة. فالحرب الحالية دمّرت ما بين 40 و50% من الناتج المحلي، وهي نسبة تماثل حجم الانهيار الذي أصاب الاقتصاد السوري خلال سنوات الحرب. ومع هذا الخراب الواسع، لن يكون ممكناً تثبيت السلام أو إنجاح الانتقال المدني الديمقراطي من دون قدرة الدولة على تقديم خدمات، وإعادة إعمار، واستيعاب النازحين، وترميم المعيشة، وضبط الاقتصاد – وكلها عناصر تشكّل جوهر الشرعية الاقتصادية.
تجارب الدول التي نهضت بعد الحروب – مثل رواندا، فيتنام، إثيوبيا وموزمبيق – تؤكد أن الشرعية الاقتصادية كانت شرطاً ملازماً لاستقرار نظمها السياسية، إذ حققت هذه الدول معدلات نمو تراوحت بين 7 و10% سنوياً، ما سمح لها بالعودة إلى مستويات ما قبل الحرب خلال عقد تقريباً. وبالنسبة للسودان، فإن أفضل السيناريوهات تُشير إلى أنه سيحتاج إلى 7-10 سنوات للعودة إلى مستوى اقتصاد 2022، كما أن تحقيق نمو متواصل بمعدل 7-10% يمكن أن يضاعف حجم الاقتصاد ثماني مرات خلال جيل واحد، فيتحول من حوالى 30 مليار دولار إلى نحو 240 مليار دولار، وهو ما يُمكن معه مخاطبة جذور أزمة النزاعات والتخلف وبناء سلام مستدام ونهضة اقتصادية واجتماعية حقيقية.
لذلك، فإن السودان بحاجة إلى عقد اجتماعي مزدوج: سياسي-اقتصادي، يلتزم فيه الفاعلون السياسيون ليس فقط بإدارة المرحلة الانتقالية عبر التوافق، بل أيضاً بتحالف تنموي واسع يضع الاقتصاد في صلب مشروع الدولة الجديدة. فالشرعية السياسية تمنح الحكومة حق القيادة، أما الشرعية الاقتصادية فتعطيها القدرة على الإنجاز – ومن دون هذين البعدين معاً لن يكون ممكناً تثبيت السلام أو بناء دولة قادرة على تلبية طموحات شعبها بعد هذه الحرب الماحقة.
ثانياً، نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى إعادة النظر فى نظام “ويستمنستر” وإعتماد نظام رئاسى-برلمانى هجين؟(7)
هناك أسئلة حائرة عن: لماذا فشلت النخب السودانية في التَعلُّم من التجارب المخيبة للآمال للحكومات الائتلافية البرلمانية المنقسمة وغير المستقرة في ظل ديمقراطية وستمنستر؟ ولماذا تبنت النخب المتلاحقة بشكل أعمى برلمانية ويستمنستر ولم تفكر ولا زالت في أنظمة سياسية بديلة قد تكون أكثر قدرة على التكيف مع الاستقطاب الاجتماعي والسياسي المتأصل الذي كان عليها أن تتعامل معه؟ برأى، بالرغم من أن النظام الرئاسي الأوتوقراطي كان كارثياً على البلاد، إلا أنه قد يكون أفضل بكثير في ظل الديمقراطية. وعلى وجه الخصوص، قد يكون النظام الرئاسي – البرلماني المختلط مع مجلسين تشريعيين أكثر ملاءمة للسودان، شريطة أن يُحدَّد دستورياً نطاق صلاحيات كل من رئيس الدولة ورئيس الوزراء؛ تُبنى مؤسسات انتخابية وقضائية مستقلة؛ تُعتمد فيدرالية مالية حقيقية تُمكِّن الأقاليم من المشاركة في التنمية الوطنية؛يُصاحب ذلك تحول اقتصادي مؤسسي يوجّه موارد ما بعد الحرب نحو العدالة الاجتماعية والبنية التحتية، لا نحو إعادة إنتاج الزبائنية السياسية. تحديداً، التوصيات أدناه يمكن أن تشكل مرتكزاتٍ عمليةٍ لمقاربة تشكيل النظام السياسي الهجين المقترح، المفضى بإذن الله، إلى بناء دولة سودانية ديمقراطية مستقرة قادرة على تجاوز دوامة الانقلابات والحروب الأهلية:
صياغة دستور انتقالي مرن: يتبنى النظام الهجين بوضوح مع آليات تفصيلية لفض النزاعات بين السلطتين التنفيذيتين، وإعادة توزيع السلطات بين المركز والأقاليم.
تشكيل مجلسين تشريعيين متكاملين: مجلس أعلى يمثل الأقاليم بالتساوي، ومجلس أدنى يعكس حجم السكان لضمان توازن التمثيل.
إنشاء مفوضية اتحادية مستقلة للحوكمة: تتولى مراقبة الفصل بين السلطات وتقديم المشورة الدستورية في حالات التنازع المؤسسي.
إصلاح النظام الحزبي: باعتماد قوانين تشجع على الائتلافات الواسعة وتمنع التشظي الحزبي، ما يضمن استقرار الحكومة البرلمانية.
إعادة هيكلة الخدمة المدنية والمؤسسات الاقتصادية: لتمكين النظام الجديد من إدارة الموارد بكفاءة وعدالة.
تعزيز الثقافة الديمقراطية: من خلال التعليم والإعلام وبرامج توعية مستمرة، لترسيخ مفاهيم المشاركة والمساءلة.
ثالثاً، نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى إلغاء الولايات والإنتقال إلى “الفيدرالية التنموية” على أساس الأقاليم ومحليات “المدن المنتجة”؟(8)
كما أبنا فى مقالنا الموسوم “نحو “فيدرالية تنموية” على أساس الأقاليم ومحليات “المدن المنتجة”: لماذا الحاجة إلى إلغاء الولايات؟”، كنتيجة لسعى النظام لإستخدام الولايات كأداء لبناء قاعدته الشعبية على أساس الزبائنية السياسية بين مركز السلطة في الخرطوم والنخب القبلية في هذه الولايات وتدمير القواعد الشعبية للأحزاب التاريخية العابرة للقبائل والكيانات الإثنية، أصبحت هذه الولايات بؤراً للاستقطاب والنزاعات القبلية في سياق الصراع من أجل النفوذ والريع المترتب عليه. إذن، لابد من الإصلاح الجذري لنظام الحكم الفيدرالي لأن الولايات الحالية بُنِيت على تقسيم إثني مقصود عمّق الاستقطاب وأنتج فيدرالية قائمة على المحسوبية، حيث تنافست النخب المحلية على الريع والولاء السياسي بدل التنمية والخدمات. ولذا يصبح من الضروري إلغاء نظام الولايات والعودة إلى أقاليم واسعة ومتكاملة اقتصادياً – مثل دارفور، كردفان، الشرق، الشمال، النيل الأزرق، والخرطوم – مع ترشيق المحليات وحصرها في المدن الكبرى وأريافها.
هذا النموذج الإقليمي الجديد يمنح السودان فرصاً أفضل لبناء حيز مالي واسع، وحشد إيرادات أكبر، وتقليل المصروفات الإدارية، وتوجيه الموارد نحو الاستثمار الإنتاجي في الزراعة والبنية التحتية والتنمية البشرية. كما يخفف من النزاعات الإثنية لأن النخب ستكون مضطرة إلى بناء تحالفات عابرة للقبائل كما كان الحال قبل تفتيت البلاد إلى ولايات إثنية.
أما الفيدرالية المالية فيجب أن تُبنى على نظام شفاف ومنصف للتحويلات بين المركز والأقاليم والمحليات، وربطها بمؤشرات التنمية البشرية لضمان وصول الموارد للمناطق الأكثر تهميشاً. وهكذا يتحول النظام الفيدرالي من أداة للزبائنية والانقسام إلى رافعة للتنمية وبناء الأمة. وبالتوافق على ثلاث مستويات للحكم – اتحادية، إقليمية، ومحلية حول المدن الكبرى – يمكن للسودان أن يؤسس لنظام فيدرالي منتج يطلق مشروعاً اقتصادياً نهضوياً يستند إلى المدن المنتجة ومحاور النمو ويُحدث التحول الهيكلي المنشود في قطاعه الزراعي الحيوي.
رابعاً، نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى حكومات وحدة وطنية إنتقالية ومنتخبة لتحقيق مشروع الانتقال السلمى النهضوى؟(9)
حكومات الوحدة الوطنية ذات ضرورة قصوى لأن التحولات الاقتصادية الكبرى التي تتطلب تعبئة واسعة للموارد وتوافقاً ممتداً لا تنجح في ظل ديمقراطيات هشة يسودها التنافس الحزبي الصفري، كما أثبتت تجارب السودان البرلمانية السابقة. وفي المقابل، تُظهر تجارب “الشمولية التنموية” – مثل إثيوبيا في عقديها الإصلاحيين – قدرتها على تحقيق إنجازات تنموية، لكنها فشلت في الحفاظ على السلام داخل مجتمعات منقسمة، فيما قاد “النظام الكليبتوقراطي” السوداني البلاد إلى الانهيار والحرب.
ولأن السودان مجتمع منقسم اجتماعياً ويخرج اليوم من حرب مدمرة وانهيار اقتصادي سحيق، فلا سبيل لبناء دولة مستقرة بدون ديمقراطية توافقية وبرامجية، تجعل من التنمية مشروعاً وطنياً مشتركاً، وتُشرك معظم القوى السياسية في مسؤولية النجاح. ولهذا يحتاج السودان إلى حكومات وحدة وطنية ليس فقط خلال الفترة الانتقالية، بل أيضاً خلال دورتين ديمقراطيتين لاحقتين، بحيث تعكس نتائج الانتخابات مع ضمان شراكة واسعة تتجاوز منطق الغلبة الانتخابية.
ففي ظل توافق وطني على عقد اجتماعي قوي وحكومات وحدة وطنية تمتد لنحو عقدين، يمكن للسودان أن يحقق تحولاً اقتصادياً نهضوياً يقود إلى معدلات نمو تقارب 10% سنوياً، ويضاعف حجم الاقتصاد عدة مرات اعتماداً على التحول الهيكلي في القطاع الزراعي. وهذا الإنجاز لن يعزز الاستقرار الاقتصادي فحسب، بل سيقود إلى اتساع الطبقة الوسطى، وتراجع التوترات الإثنية والجهوية، وترسيخ الديمقراطية والتنمية والسلام في بلد أنهكته الانقسامات والحروب.
خامساً، نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى سردية وطنية فاعلة لهندسة المشروع الوطني؟(10)
يحتاج السودان بعد الحرب إلى سردية وطنية جامعة لأنها الشرط الأول لإعادة بناء الثقة المنهارة بين مكوّناته، ونزع شرعية الحرب والانقسام، وتوجيه المجتمع نحو مشروع سلام ونهضة يتجاوز الجروح العميقة التي خلّفتها الكارثة الحالية. فالسردية الوطنية ليست مجرد خطاب معنوي، بل هي إطار نفسي-اجتماعي يوحّد الرؤية، ويحرّك الشباب، ويمنح العقد الاجتماعي القادم شرعية مجتمعية راسخة، كما تُظهر تجارب زعماء مثل مانديلا ودنج هسياو بنج. وفي سياق الخراب الاقتصادي الهائل وفقدان ما يقارب نصف الناتج المحلي ، تصبح السردية الملهمة ضرورة لإقناع السودانيين بأن النهضة ممكنة، ولتعبئة القوى المدنية حول مشروع إعادة الإعمار والتحوّل التنموي. وباختصار، فإن السودان لن يخرج من هذه الحرب إلا برؤية موحَّدة وقصة وطنية مشتركة تعيد تعريف الغاية والاتجاه، وتحوّل الألم الجماعي إلى طاقة للسلام والتجديد الوطني.
خاتمة ونداء:
إنّ السودان يقف اليوم على عتبة لحظة فارقة، بعد حرب مدمّرة كشفت خللاً بنيوياً عميقاً في مشروعه الوطني، وبينت هشاشة الدولة واتساع الشروخ في النسيج الاجتماعي. وفي مواجهة هذا الانهيار، تبرز الحاجة الملحّة إلى توافق مدني–ديمقراطي عريض يؤسّس لـ ميثاق وطني جامع يشكّل الإطار الناظم لسلام مستدام وانتقال مدني ديمقراطي ونهضوي. ويقوم هذا الميثاق على مصفوفتين مترابطتين من الأهداف:
أولاً: إنهاء الحرب عبر إصلاح أمني شامل يعيد بناء القوات النظامية من جديد على أسس مهنية، ويؤسّس لمنظومة عدالة انتقالية مستقلة تُنهي عسكرة السياسة والاقتصاد، وتعيد توزيع القوة لصالح المجتمع والدولة المدنية.
ثانياً: إنشاء عقد اجتماعي جديد يعالج “ثلاثية المتلازمة”: الاستقطاب السياسي، والهيمنة الريعية والشعبوية الاقتصادية، وضعف التحكيم المؤسسي. ويتحقق ذلك من خلال خمس ركائز إصلاحية:
الشرعية الاقتصادية،
النظام السياسي الهجين،
الفيدرالية التنموية،
حكومات الوحدة الوطنية،
والسردية الوطنية الجامعة.
وإذا كان إعادة بناء المؤسستين العسكرية-الأمنية والعدلية هو المدخل الضروري لعبور “الممر الضيق” نحو الانتقال المدني، فإن الركائز الخمس اللاحقة هي دعائم الاستقرار والبقاء في فضاء وطنى، السيادة فيه لمجتمعٍ متصالحٍ مع تنوعه، ومتوافق على ثوابته الوطنية، تحكمه دولةٌ قادرةٌ ومساءلةٌ بحسب قواعد دستورية ومؤسسية راسخة. كما تحمل هذه القضايا رمزية خاصة في تعزيز مصداقية القوى المدنية الديمقراطية، فى المقام الأول أمام الشعب السوداني، وكذلك أمام الشركاء الراغبين فى دعم مشروع وطني سودانى موثوق يمكن أيضاً أن يخاطب مخاوفهم الأمنية ويلبى مصالحهم المشروعة فى سياق شراكات كسبية تشمل مجمل حلقات إنتمائنا الأفريقى والعربى والدولى.
إن اللحظة التاريخية التي يمر بها السودان ليست مجالاً للمزايدات أو الخلافات الصغيرة، بل امتحان وجودي لحقّ شعبه في الحياة والكرامة، وفي بناء مستقبل لا تحكمه البنادق ولا تمزّقه الفتن والحروب. وقد أثبتت التجارب أن المبادرات الفردية المتناثرة – مهما خلصت نواياها – عاجزة وحدها عن إيقاف حرب أو بناء دولة. ولن يملأ هذا الفراغ السياسي والأخلاقي إلا ميثاق وطني جامع يحمل توقيع القوى المدنية كافة، ويصبح رايةً لسلام عادل، وانتقال ديمقراطي راسخ، ومشروع نهضوي يليق بالسودان وأهله.
________________________________________________________________________________
أنظر مقالنا عن موضوع المتلازمة السودانية: https://alghadalsudani.com/16061/
راجع ورقة عبدول محمد (المسؤول السابق في الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة الذي يتمتع بخبرة واسعة في الوساطة في القرن الأفريقي، ولا سيما في السودان وجنوب السودان، وشغل مؤخراً منصب رئيس مكتب الممثل الخاص للأمم المتحدة للسودان):
From Ceasefires to Real Peace: Reclaiming the Purpose of Peacemaking in
a Polarized World
راجع مقالنا الموسوم “نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى: العملية الأممية واستحقاق الاصلاح الأمنى الشامل والعدالة الانتقالية”: https://www.medameek.com/?p=181767
راجع مقالنا الموسوم “نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى: العملية الأممية واستحقاق الاصلاح الأمنى الشامل والعدالة الانتقالية”: https://www.medameek.com/?p=18176
راجع مقالنا الموسوم “ما أشبه الليلة ب”أسوأ كوابيس” البارحة: السودان ما بين محاولات “عودة” الاتفاق الإطارى و”توطين” المبادرة الرباعية”: https://alghadalsudani.com/17129/ (صحيفة الغد السودانى).
راجع مقالناعن الشرعية الاقتصادية: https://alghadalsudani.com/17498/
راجع مقالنا عن النظام السياسى الهجين: https://alghadalsudani.com/18283/
راجع مقالنا عن مستويات الحكم والفيدرالية التنموية: https://alghadalsudani.com/18010/
راجع مقالنا عن حكومة الوحدة الوطنية: https://alghadalsudani.com/18416/
راجع مقالنا عن السردية الوطنية: https://alghadalsudani.com/18623/
