في تفكيك خطاب “حميدتي”.. من يضبط البوصلة السياسية الطائشة

(تحليل سياسي)

عبدالناصر الحاج
تسبب خطاب الأمس لقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان  دقلو “حميدتي”، في حالة من الزهو والشعور بالانتصار، عند معسكر الجيش السوداني وحلفائه وجموع السودانيين الذين يناصرون الجيش، ويغلبون خيار الحسم العسكري، ويرفضون أي حلول قائمة على مبدأ التفاوض مع الدعم السريع. وبالمقابل اجتاحت موجة من الإحباط والإرتباك- بسبب خطاب حميدتي-  معسكر الذين يرفضون الحرب ويتمسكون بمبدأ الدعوة إلى إيقافها عبر تغليب خيارات التفاوض السلمي بين طرفي الصراع. وقد لامس خطاب حميدتي أشواق الذين يقفون في معسكر (الحسم العسكري)، لاستشعارهم بأن اللغة التي كان يتحدث بها حميدتي، تعبر عن شعور بالهزيمة والتوهان الشديد، فضلاً عن أن الخطاب وفقاً لرؤيتهم، احتوى ولأول مرة منذ اندلاع حرب الـ15 من أبريل، باعتراف صريح من قبل حميدتي بخسارته المعارك العسكرية الأخيرة، في محور جبل موية بولاية سنار، ومحور الفاشر، ومحور الخرطوم وبحري وأمدرمان، وعلى عكس ما كان يظهر به “حميدتي” في كل خطاباته المسجلة سابقاً، حينما كان يُغالي في التباهي والإطراء والمدح لانتصارات جنوده في كافة المحاور القتالية. ووجد أصحاب هذا الرأي، كل الأسانيد التي يحتاجونها لإبراز انتصارات الجيش السوداني وحلفائه من الفصائل المسلحة الأخرى، بعدما كادت أن تفقد مصداقيتها عند عدد كبير من السودانيين، بسبب كثير من “التهاويل” التي ظلت تلازم الحملات الاعلامية التي يقودها أنصار معسكر الجيش السوداني. أما حالة الإحباط والإرباك التي ضربت معسكر الداعين لإيقاف الحرب، فهي حالة “مؤقتة” جرفها خطاب حميدتي الذي أغدق في التبشير بالوعيد والتهديد باستمرار الحرب ربما لسنوات قادمة. كما أن حميدتي ولأول مرة منذ اشتعال الحرب، يظهر وهو مُعلناً الامتعاض وعدم الرضا من المجتمع الدولي ومؤسساته الكبرى، وعلى رأسه الولايات المتحدة، بجانب الاتهام الصريح للجارة مصر، أحد أهم دول الجوار، تأثيراً في الساحة السياسية السودانية، حرباً أو سلماً.
*الاعتراف بالهزيمة*
سلك حميدتي مبدأ “المصداقية” وعدم المكابرة في خطاب الأمس، فيما يتصل بطبيعة المعارك العسكرية الأخيرة، ولهذا فضّل الإقرار بالهزيمة والخسارة، خصوصاً في جبل موية، وعجزه عن السيطرة على الفاشر، وخسارة كثير من المواقع المهمة في الخرطوم العاصمة. ولهذا الاعتراف الاضطراري من قبل حميدتي، وجهٌ آخر، غير الذي يُروج له الداعين إلى استمرار الحرب حتى القضاء على آخر جندي من الدعم السريع. وهو أن حميدتي كان يتعمد الربط بين خسارته العسكرية الأخيرة، وبين طبيعة تواطؤ دولي وإقليمي مع قائد الجيش السوداني ، عبدالفتاح البرهان، بدأ يتعرى لحميدتي، جارفاً معه كثير من الوساوس والظنون والمخاوف، منذ أن سافر البرهان إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وألقى خطاب السودان، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ(79)، وهي ذات الجمعية الأممية التي لم تعر حميدتي أدنى اهتمام لخطابه الموجه لها عشية انعقادها، رغم مطالبته الصريحة لها، بعدم منح البرهان أية شرعية تضعه بأنه ممثلاً للسودان، وفي سبيل ذلك طرق حميدتي مسامع المجتمع الدولي والإقليمي لتذكيرهم بأن البرهان هو قائد انقلاب الـ25 من أكتوبر، والذي بسببه تم تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، وبسببه فقد السودان كل المساعدات الدولية التي كانت مقررة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان. ولهذا الربط والإشارة، ضرورة مهمة في اعتراف حميدتي بالهزائم العسكرية، وكأنه يريد أن يبلغ الشعب السوداني، بأنه هو كان منسجماً ومتوافقاً مع إرادة المجتمع الدولي والإقليمي فيما يتعلق بالموقف من إيقاف الحرب عبر التفاوض، ولكنه لم يجد المساندة والمؤازرة والتحفيز اللازم من المجتمع الدولي والإقليمي، بل على العكس، وفقاً لتصورات حميدتي، جازته الولايات المتحدة بكثير من العقوبات التي طالت إخوته وكبار قادته، وأن الولايات المتحدة غضت الطرف عن دعم عدد من الدول للجيش السوداني رغم علمها بأن المنظومة البائدة المتمثلة في الحركة الاسلامية السودانية هي من تتحكم في قرارات الجيش السوداني. وحاول حميدتي أن يبرهن ذلك صراحةً عبر اتهامه لمصر، بأنها منحت البرهان خلال مفاوضات جنيف (8) طائرات حربية من فئة (K8) بماكينات أمريكية. وهو ذات الاتهام الذي دفع وزارة الخارجية المصرية لنفي ذلك الاتهام، ولأول مرة تصف القاهرة رسمياً قوات الدعم السريع بـ(المليشيا)، ومما فسره كثير من المراقبين، بأن حميدتي بدأ وكأنه فقد (البوصلة) وكاد أن يتوه بسبب الهزائم التي لم يستطع تبريرها لرد الروح المعنوية لجنوده. وتقول الكاتبة الصحفية شمائل النور في صفحتها على “فيس بوك” : “خطاب حميدتي جاء محشود بالشكوى، التبرير ومرافعات الدفاع عن الموقف، في سياق شعور  نادر بالضعف والخسارة التي تحدث عنها كثيرا وحاول تخفيفها مرارا، واعدا قواته بتعويض هذه الخسارة، أما مسألة الخطة (ب) والنداءات للتبليغ للوحدات العسكرية فيما يعني أنه بداية عملية عسكرية جديدة، ستظهر الاستجابة لها من عدمها مقبل الأيام”.
*عودة الحزب المحلول*
كالعادة، أفرط حميدتي في تبريراته المعهودة بأنه لم يشعل الحرب، وأن حزب المؤتمر الوطني المحلول- الذراع السياسي للحركة الاسلامية- هو من يقف وراء الحرب، وأنه – أي المؤتمر الوطني- ظل يختطف قرار الجيش السوداني، بغية العودة للسلطة. ودلل حميدتي في خطابه على ذلك، بالاستقبال الذي حُظي به إبراهيم محمود رئيس حزب المؤتمر الوطني، وكذلك ظهور أحمد عباس والي سنار السابق إلى جنب مساعد القائد، الفريق شمس الدين كباشي. لكن في هذه المرة، يختلف تكرار حميدتي لاتهام المنظومة البائدة بالوقوف وراء الحرب لأجل العودة للسلطة، لأن حميدتي ينطلق من ذات الفرضية التي تكتنفه هذه الأيام، وهي وجود رابط بين تواطؤ المجتمع الدولي مع البرهان وما تتعرض له قواته في مسرح العمليات. وبرر حميدتي ذلك بأن المجتمع الدولي ظل يرفض عودة النظام السابق، وهو ذات الأمر الذي دفع حميدتي للقبول بالاتفاق الإطاري، رغم تحفظاته عليه. إلا أن حميدتي أراد أن يقول بأن الاتفاق الإطاري الذي كان مؤيداً من قبل المجتمع الدولي ، هو ما تسبب في الحرب الآن بسبب عداء المنظومة البائدة له. ولهذا وبحسب رأي حميدتي، كيف يتحول المجتمع الدولي داعماً أو متواطئ على أقل تقدير مع قوات البرهان وهو يعلم علم اليقين بأن المنظومة البائدة هي من تقف وراء اشعال الحرب لقطع الطريق أمام الانتقال الديمقراطي والتحول المدني الذي أقر به الاتفاق الإطاري وصمم لأجله. وعليه لا يخلو خطاب حميدتي من رسائل غير مباشرة في بريد القوى المدنية المناهضة للحرب، بأنها تقف الآن في خانة التواطؤ بسبب الموقف المريب من المجتمع الدولي، وأنها باتت قوى لا حول لها ولا قوة في إبراز موقف سياسي مستقل عن بوصلة المجتمع الدولي والإقليمي فيما يتعلق بالتصور حول مستقبل الحرب ومستقبل الدولة السودانية.