الحرب السودانية: قراءة مركّبة في الانهيار الاقتصادي من منظور كلي وجزئي

بقلم وزير المالية والتخطيط الوطني الأسبق بروفيسور ابراهيم البدوى عبد الساتر

وكما يُقال في التراث الفقهي “ليس بعد الكفر ذنب” للدلالة على أنّ الكفر هو أعظم الذنوب وأشدها، حتى كأنّ ما دونه يتضاءل أمام فظاعته، فإنّ الحال في السودان اليوم يجيز لنا، من شدّة ما أصاب البلاد، أن نقول: “ليس بعد الحرب ذنب”. غير أنّ هذه العبارة – كما هو شأن نظيرتها الأصلية – لا تعني إسقاط المسؤولية عمّن اقترفوا الجرائم والفظائع؛ فكما لا يُعفى الكافر من تبعات فروع الشريعة، كذلك لا يجوز أن يفلت من المساءلة أولئك الذين أشعلوا الحرب، ولا الذين ارتكبوا فيها الموبقات بكل تفاصيلها، بما في ذلك ما ألحقوه بالبلاد والعباد من تدميرٍ لمعيشة الناس واقتصادهم، وتشريدٍ وتمزيقٍ للنسيج الاجتماعي.

لقد دفعت هذه الحرب شعباً عزيزاً – كان مستور الحال إلى حدٍّ ما، “آمناً في سربه، يمتلك قوت يومه” – إلى الجوع والمسغبة والعَوَز، وإلى النزوح واللجوء خارج الحدود بحثاً عن رحمةٍ لم يجدها لدى بعض من فُتنوا بالسلطة وزُخرُف الدنيا، فأشعلوا ناراً أشد فتكاً وضراوة من تلك التي وصفها فأبدع الشاعر الجاهلي الفحل زهير بن أبي سلمى(1):

وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ

وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً

وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا

كَأَحْمَـرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِـعْ فَتَفْطِـمِ فَتُنْتِـجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُـمْ

قُـرَىً بِالْعِـرَاقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَـمِ فَتُغْـلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِـلُّ لأَهْلِهَـا

يقول شاعرنا الحكيم إن الحرب وويلاتها لا تحتاج لترجمان، فهي واضحة لكم وقد خبرتموها، حيث أنها من فعلكم ومتى أشعلتموها تأتيكم ذميمة، تعرككم كما تعرك “الثِفال” ذرات العيش في الرحى الصخرية(2). هذه الحرب تلد المصائب كالناقة “الكشوف” التي تلد التوائم كل عام، نكاية عن كثرة وتطاول المصائب الى تأتى بها. هذه الحرب ستنتج لكم غلمان شؤم، وأشأم هو الشؤم بعينه، كلهم مثل أحمر عاد (قدار بن سالف) الذي عقر الناقة، وعادٌ هنا تعنى ثمود قوم سيدنا صالح (لأن ثمود يقال لها عاداً الآخرة ويقال لقوم هود عاداً الأولى، ودليل ذلك قوله تعالى “وَأَنَّهُٓ أَهۡلَكَ عَاداً الأولى”، النجم: 50). ثم يتطاول أمر هذه الحروب، كما قطع الشاعر وتؤيد ذلك أدبيات الحروب الأهلية الحديثة، حتى تكون بمنزلة من تلد وتٌرضِع وتُفطِم، وغِلة هذه الحرب ليس ما تسرون به مثل ما ينتج أهل العراق من الطعام والدراهم، ولكن غِلتها ما تكرهون من الموت والدماء.

نخصص هذا المقال لأحد موبقات هذه الحرب، ألا وهو إدخال البلاد فى “جحر ضبٍ خَرِب” من الانهيار الاقتصادي المركّب لم تشهده فى تاريخها الحديث. وقد امتدّ أثر الدمار إلى كل مكوّنات الدولة والمجتمع: ما يزيد على 14 مليون بين نازح داخلياً ولاجئ إلى دول الجوار، خدمات صحية وتعليمية منهارة، وسياق معيشي يتسم بتفشي الجوع وارتفاع الأسعار، واختفاء سبل كسب العيش في المدن والريف على السواء. ومع أن الاقتصاد كان هشاً منذ ذلك الإنقلاب المشئوم فى الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، فإن الأشهر اللاحقة لهذه الحرب قد كشفت عن انهيار شامل مسّ البنية العميقة للإنتاج، والقدرة الشرائية للأسر، وسلاسل الإمداد ومرونة الأسواق المحلية.

أولاً: الصورة الكلية لانهيار الاقتصاد الوطني

التضخم والأسعار: بعد إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 دخل السودان مرحلة التضخم الإنفجارى، حيث بلغ متوسط معدل التضخم السنوى فى 2021-2022 أكثر من 250%، وبعد الحرب تواصل إرتفاع الأسعار بمعدل 200%، رغم أن الأسعار قد كانت أصلاً مرتفعة جداً قبل الحرب، بينما يقدر أن تستمر وتيرة التضخم بما يقارب 200% خلال 2025. وفي ظلّ هذا التضخم التراكمي المفرط، انهارت القوة الشرائية للسكان انهياراً شبه كامل، وتراجعت قدرتهم الذاتية على تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث.

الناتج المحلى: تشير التقديرات الحكومية والدولية إلى خسائر اقتصادية تتجاوز 26 مليار دولار خلال أشهر الحرب الأولى، أي أكثر من نصف حجم الاقتصاد في سنة 2022. وتتوافق مع هذه التقديرات نتائج محاكات عدة نماذج اقتصادية محكمة، حيث أفادت بأن الاقتصاد قد إنكمش بما يتراوح بين 40 إلى 50% جراء الحرب. أما على المستوى القطاعى فقد حوت دراسة حديثة للدكتور خالد صديق، الخبير بالمعهد الدولي لأبحاث السياسات الغذائية (International Food Policy Research Institute: IFPRI) نتائج هامة نوردها أدناه(3):

الناتج المحلى على المستوى القطاعى: القطاع الصناعى هو الأكثر تضرراً، حيث فقد أكثر من نصف قيمته نتيجة توقف المصانع، وانهيار شبكات التوزيع، وتعطّل المصافي. أما الخدمات – الصحة والتعليم والنقل والتجارة – فقد انكمشت بأكثر من 40%، فيما تراجعت الزراعة بما يفوق 35%.

فقدان الوظائف: يُقَدَّر أن ما يقرب من 4.6 مليون وظيفة قد إختفت، أي حوالي نصف إجمالي الوظائف. وستكون المناطق الحضرية والقطاعات غير الزراعية هي الأكثر تضرراً، حيث سيكون أكثر من 700,000 وظيفة زراعية معرضة للخطر.

انخفاض الدخل: سينخفض دخل الأسر في جميع الفئات – الغنية والفقيرة، الريفية والحضرية – بنسبة تصل إلى 42%. وستكون الأسر الريفية والأقل تعليماً هي الأكثر تضرراً.

ارتفاع معدلات الفقر: تشير التقديرات إلى أنّ ما يصل إلى 7.5 ملايين شخص إضافي قد ينزلقون إلى دائرة الفقر، ليضافوا إلى معدلٍ كان قد تجاوز 60% عام 2022. وفي الريف، تبدو الصورة أكثر قتامة؛ إذ قد يقفز الفقر بأكثر من 32 نقطة مئوية فوق مستواه المرتفع أصلاً قبل الحرب (الذي تجاوز 67% من سكان الريف)، بما يعني عملياً أنّ غالبية الريفيين – إن لم يكن جميعهم – باتوا تحت خط الفقر. وتبقى النساء، ولاسيما من المجتمعات الريفية، الفئة الأكثر تعرضاً لهذه الصدمة القاسية.

النظام الزراعي والأمن الغذائى: الذي يشمل الزراعة وتجهيز الأغذية والتجارة والخدمات الغذائية يقدر أن يفقد ثلث قيمته. أما على صعيد الأمن الغذائي، فقد دخل أكثر من 24 مليون شخص دائرة الجوع الحاد بين ديسمبر 2024 ومايو 2025، وفقاً لبيانات المجتمع ومسوح الأسر.

ثانياً: الصورة الجزئية عبر بيانات المجتمع والمسوح الريفية والحضرية:

تقدّم المسوح الريفية والوطنية صورة أكثر قرباً للحياة اليومية تحت تأثير الحرب، وتكشف ما لا تظهره المؤشرات الكلية عادة.

الوصول إلى الأسواق والحصول على السلع: نحو 25% من الأسر الريفية أفادت بأنها لم تعد قادرة على زيارة الأسواق بسبب انعدام الأمن، أو صعوبة الوصول، أو ارتفاع التكلفة. كذلك، أفاد 43% من الأسر الريفية أنها لا تستطيع شراء الضروريات الأساسية.

تعطّل الزراعة: تشير البيانات إلى أن 70% من الأسر الزراعية لم تتمكن من زراعة أراضيها خلال موسم صيف 2023. أما من استطاع الزراعة، فقد تعرّض نصفهم تقريباً إلى تعطّل الإنتاج بسبب الحرب. بهذه الصورة يصبح انهيار القطاع الزراعي ظاهرة اجتماعية وليست اقتصادية فحسب.

سلاسل الإمداد والمساعدات: أدى انهيار الطرق، وتوقف التجارة بين المناطق، وصعوبة النقل، إلى ندرة السلع الزراعية وارتفاع أسعارها. كما أن المساعدات الرسمية لم تصل إلا إلى نسبة محدودة من السكان، لتبقى غالبية الأسر معتمدة على الدعم غير الرسمي من الأقارب والمجتمع. وانهار القطاع المصرفي كذلك، إذ أن نسبة كبيرة من فروع البنوك تتأثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالأعمال الحربية، مما قيد حركة السيولة والتحويلات.

ثالثاً: الربط بين التحليل الكلي والجزئي

تكشف المقارنة بين النتائج الكلية للنماذج الاقتصادية وبين البيانات الجزئية لمسوح المجتمع عن ثلاث حقائق حاسمة:

الانهيار الكلي يجسّد نفسه في تفاصيل الحياة اليومية: فالانكماش الكبير في الناتج المحلي يظهر ميدانياً في قدرة الأسر على الشراء، وتعطّل الأسواق، واختفاء الوظائف، وارتفاع الأسعار.

التدهور الاجتماعي هو الوجه الحقيقي للأرقام الاقتصادية: فالأٍسر التي لم تعد تزور الأسواق، أو فقدت مصدر رزقها، أو لم تتمكن من زراعة أرضها، هي التعبير الملموس عن انكماش الناتج المحلي بنسبة 50%، وليست مجرد سوابق حسابية.

الاقتصاد غير الرسمي – المسكوت عنه – يحمل العبء الأكبر: ومع أن النماذج الكلية لا تلتقطه بدقة، إلا أن مسوح المجتمع تظهر أنه أصبح خط الدفاع الوحيد أمام المجاعة، رغم هشاشته وطبيعته العشوائية غير المهيكلة.

رابعاً: ما العمل؟

وقف الحرب شرطٌ لا يُستغنى عنه: فكل يوم إضافي يزيد الخسائر المالية والاجتماعية، ويعمّق الفقر، ويطيل زمن التعافي المحتمل. إلا أنه حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها لابد من حماية سبل العيش الآن والعمل مع المنظمات الطوعية الوطنية والأجنبية لتقديم الدعم للقطاع الزراعى، خاصة قطاعى الحبوب والثروة الحيوانية؛ إعادة تشغيل الخدمات الأساسية؛ وتوسيع برامج الحماية الاجتماعية الموجّهة. أيضاً، كما أوصيت فى مقالى الموسوم “المجاعة الصامتة: كيف يدمّر الجوع مستقبل السودان قبل أن تنتهي الحرب؟”(4)، يجب اعتماد اجراءات عاجلة من أربع مكونات خلال الحرب وتتواصل بعدها ضمن استراتيجية شاملة لإعادة الإعمار والسلام يدمج فيها ملف التغذية كمكوّن أصيل على مستوى الاقتصاد الكلي و ليس مجرد ملفٍ إغاثيٍ أوإنسانيٍ:

أولاً، تغذية عاجلة للأمهات والأطفال: حليب، مكملات، أغذية علاجية جاهزة، دعم غذائي مباشر.

ثانياً، استعادة التعليم ولو بمدارس مؤقتة، تقدم فيها الوجبة المدرسية كأداة تعليمية، صحية واقتصادية معاً.

ثالثاً، تبنى برنامجاً صحياً مكثفاً، يشمل اللقاحات، المياه النظيفة، مكافحة الإسهالات والطفيليات.

رابعاً، تحويلات نقدية للأسر لتحفيز الطلب وإنعاش الاقتصاد المحلى وتقليل الاعتماد على السلال الغذائية قدر الإمكان.

خاتمة:

الحرب في السودان ليست حدثاً عسكرياً فحسب؛ إنها أزمة بنيوية تمزج بين الانهيار الاقتصادي الكلي والألم الاجتماعي الجزئي الذي تكشفه مسوح المجتمع. فالأسر التي فقدت سبل رزقها، والمزارع التي توقفت عن الإنتاج، والأسواق التي خلت من المشترين، كلها تفاصيل تُجسّد حجم الكارثة الكلية التي تعصف بالاقتصاد.

ومن دون مسار سياسي جديد يُنهي الحرب ويعيد بناء الدولة، فإن استعادة عافية الاقتصاد ستظل احتمالاً بعيد المنال، وقد يستغرق تحقيقه عقوداً إن أمكن أصلاً.

———

هو زهير بن أبي سُلمى ربيعة بن رياح المزني من مزينة، ولد عام 520 م ترجيحاً في نجد. كان أبوه شاعراً وكذلك كانت أختاه سلمى والخنساء وابناه بجير وكعب الذي أدرك الرسول-عليه الصلاة والسلام- ومدحه في قصيدة “البردة” المشهورة. عمَر زهير طويلا وتوفي عام 608 م ترجيحاً، أي قبل عامين من بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

الثِفال هو الحجر المدبب الصغير ويسمي “ود المرحاكة” في العامية السودانية ويستعمل في طحن الذرة حتى الآن في بعض ارياف السودان.

أنظر الدراسة فى هذا الرابط: https://www.ifpri.org/blog/sudans-war-is-an-economic-disaster-heres-how-bad-it-could-get/

أنظر الرابط: https://alghadalsudani.com/19098/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.