تجارب “حكومات الوحدة الوطنية” فى جنوب أفريقيا وكينيا ولبنان والدروس المستفادة للسودان
بقلم: وزير المالية والتخطيط الاقتصادي الأسبق بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي عبد الساتر
تُعَدّ حكومات الوحدة الوطنية من أبرز الآليات التي تلجأ إليها الدول الخارجة من الأزمات العميقة أو الحروب الأهلية، بهدف إعادة بناء الثقة بين المكونات الاجتماعية والسياسية المتصارعة، واستعادة شرعية الدولة ومؤسساتها على أساسٍ توافقي لا إقصائي. ففي المجتمعات المنقسمة هوياتياً – إثنياً أو جهوياً أو دينياً – تمثل هذه الحكومات نوعاً من “تقنية الالتزام السياسي” (Political Commitment Technology) التي تهدف إلى كسر دوائر الاصطفاف الهوياتي والنزاعات العدمية، عبر تبني ترتيبات تضمن توزيعاً أكثر شمولاً وعدالة للسلطة والثروة، وتُؤسّس لمسار سياسي قائم على التوافق الوطني لا على منطق الغلبة أو التفويض الانتخابي المطلق. ومن هذا المنطلق، تمثل تجارب جنوب أفريقيا (1994) وكينيا (2008) ولبنان (اتفاق الطائف 1989) نماذج متباينة لكنها غنية بالدروس حول فرص ومخاطر حكومات الوحدة الوطنية في تعزيز الديمقراطية، وبناء السلام المستدام، وتحقيق التحولات الاقتصادية في أعقاب الانقسامات الوطنية الكبرى – وهي دروس بالغة الأهمية للسودان في سعيه نحو تأسيس مشروع وطني جامع بعد الحرب.
أ. جنوب أفريقيا (1994–1997: حكومة الوحدة الوطنية): إنهاء نظام الفصل العنصري عبر تسوية تفاوضية وانتخابات عام 1994 مهدا لبناء ائتلاف واسع شمل المؤتمر الوطني الأفريقي، بزعامة نلسون مانديلا، وكان الحزب الفائز الأكبر في انتخابات 1994، وقائد عملية التحرير وإنهاء نظام الأبارتيد؛ الحزب الوطنى، بزعامة فريديريك ويليام دي كليرك، وهو الحزب الذي كان يحكم خلال حقبة الأبارتيد، وشارك في حكومة الوحدة الوطنية ضمن ترتيبات الانتقال السلمي؛ حزب إنكاثا للحرية، بقيادة مانغوسوثو بوثيليزي، وهو حزب ذو قاعدة قوية في إقليم كوازولو-ناتال، مثّل مصالح قبيلة الزولو ذات الثقل السكانى الكبير وانضم لاحقاً بعد تفاوضات شاقة قبيل الانتخابات. هذه الأحزاب الثلاثة شكّلت ما سُمّي بـ حكومة الوحدة الوطنية (Government of National Unity) للفترة الانتقالية 1994–1999، وفقاً لما نصّ عليه دستور المرحلة الانتقالية، بحيث تُشارك كل الأحزاب التي حصلت على أكثر من 5% من الأصوات في الحكومة.
على المستوى السياسى، ساهمت الحكومة فى تعزيز الديمقراطية، حيث وُضعت قواعد تنافسية راسخة بدستور توافقي وآليات تحكيم دستوري قوية؛ انتقل المشهد سريعاً من “وحدة انتقالية” إلى تنافس حزبي طبيعي دون انهيار لقواعد اللعبة. أيضاً، كان هناك نجاحاً ملحوظاً فى خفض مستوى العنف إلى حدود يمكن إدارتها، واستُوعبت التوترات الإثنية-المناطقية فى سياق ترتيباتٍ دستورية ولامركزية نسبية. هذا وقد ساعد وضوح الأهداف المرحلية (دستور، مصالحة، دمج مؤسسي) وحزمة سياسات اقتصادية/اجتماعية على ترسيخ الاستقرار، مع بقاء تحدّي عدم المساواة كقيدٍ سياسي-اجتماعي لازال فى حاجة لمعالجة على المدى الطويل. أما على الصعيد الاقتصادى، فبالنظر إلى أن حكومة الوحدة الوطنية قد جاءت عقب نظام فصل عنصرى كرَّس عدم المساواة بين البيض والأغلبية السوداء، فكان طبيعياً أنها قد أطلقت خطةً شاملةً لإعادة بناء الاقتصاد والمجتمع على أسس العدالة والمساواة:
برنامج “إعادة الإعمار والتنمية” الذي استهدف توسيع الخدمات العامة، البنية التحتية، والإسكان للفقراء.
لاحقاً، أُتبِع ذلك ببرنامج “النمو والعمالة وإعادة توزيع الدخل”، الذى ركز على سياسات الاستقرار الكلي والنمو وجذب الاستثمارات.
حققت البلاد نمواً اقتصادياً معتدلاً (3 إلى 4% سنوياً) مع تحسن في المؤشرات الاجتماعية (الكهرباء، المياه، التعليم).
ومع ذلك، ظل التفاوت الاجتماعي كبيراً بسبب محدودية إعادة توزيع الثروة.
نجحت حكومة الوحدة في وضع أسس تحول اقتصادي مؤسسي يوازن بين العدالة والاستقرار، لكنها لم تحقق قفزة هيكلية كبيرة بسبب استمرار التفاوت في الدخل والملكية.
ب. كينيا (2008–2013: حكومة “الائتلاف الكبير” بعد أحداث العنف فى عامى 2007/2008): إثر انفجار العنف الأهلى الواسع فى أعقاب نزاعٍ انتخابي، توافقت النُخب الكينية، بدعم ووساطة دولية، على تسوية سياسية تم بموجبها إنشاء حكومة وحدة وطنية وصياغة دستور جديد. أفضت التسوية إلى دستور 2010 الذي أسس لبناء لامركزية شاملة ومعايير أكثر وضوحاً للفصل بين السلطات الثلاثة، التنفيذية، التشريعية والقضائية. أيضاً، فقد حدّت القواعد الدستورية من احتمالات إعادة إنتاج العنف الانتخابي الحاد، مما أدى إلى الإنتقال إلى وضع جديد يسوده التنافس المؤسسي حتى مع استمرار بعض العنف المحدود، حيث نهضت أدوات العدالة المعززة واللامركزية بدور صمّام الأمان إلى حدٍ كبير. للأسف فإن استمرار الفساد، وإن كان عشوائياً وغير مؤسسياً كما كان فى السابق، إلا أنه قد أضعف من مردود الإصلاح الدستورى لجهة تعزيز ثقة الشعب فى الطبقة السياسية. ومع ذلك، استطاعت حكومة الوحدة الوطنية بناء “جسراً دستورياً”، ساهم فى الإقلال من قابلية اشتعال العنف الأهلى الواسع، وأتاح عودةً تدريجية للتنافس الطبيعي وتعزيز الديمقراطية فى تلك الفترة الحرجة التى مرت بها كينيا.
فى سياق استعادة الاستقرار وإعادة الثقة في الاقتصاد، أطلقت الحكومة الكينية برنامج”رؤية 2030″، الذي ركز على البنية التحتية، التعليم، والطاقة، مما أدى إلى تحقيق معدلات نمو مرتفعة، تراوحت بين 5-6% سنوياً بفضل تحسن المناخ الاستثماري وإنتعاش قطاعى السياحة والزراعة. أيضاً، ساهم الدستور الجديد في لامركزية التنمية وتعزيز الحوكمة الاقتصادية المحلية، إلا أن استمرار الفساد والاعتماد المفرط على الاقتراض شكلا عقبتين رئيسيتين أمام تحقيق تحول مستدام. عليه، نخلص إلى أن حكومة الوحدة قد حققت تقدماً في الاستقرار المالي والنمو، لكنها لم تنجح تماماً في التحول الهيكلي، مما جعل مكاسبها الاقتصادية مؤقتة نسبياً.
ت. لبنان (ما بعد 1990: حكومات توافق وطنى ضمن نظام محاصصة طائفية): انتهاء الحرب الأهلية باتفاق الطائف (1989/90) الذي أعاد توزيع الصلاحيات وحدّد صيغة تقاسمٍ طائفي للسلطة، أفضت إلى تكوين حكومات وفاق وطنى ضمت الأقطاب الطائفية الرئيسة. حققت هذه الحكومات حداً أدنى من “الديمقراطية التوافقية”، ضمن تمثيلاً واسعاً لكنه وضع سقفاً منخفضاً للمنافسة البرامجية والمساءلة، الأمر الذى أدى إلى شللٍ متكرر وتعطيل تداول فعّال للسلطة. أيضاً، تحقّق سلامٌ بارد طويل نسبياً (انعدام حربٍ أهلية شاملة) لكنه كان هشاً، خاصة فى ظل الأزمات الإقليمية وإنعكاساتها على تماسك التوافق الوطنى. فترات الفراغ الحكومي وتعطّل المؤسسات أبانت بجلاء كلفة ترتيبات “تقاسم السلطة من دون حوكمة فعّالة”.
على الصعيد الاقتصادى، شهد لبنان في التسعينيات طفرة إعمار كبرى بقيادة الرئيس رفيق الحريري، مدفوعة بالاستدانة الخارجية، بينما انحصر نمو الاقتصاد فى قطاعات الخدمات والعقارات. أيضاً، أدى نظام المحاصصة إلى الإخفاق فى إجراء إصلاح مالى شامل، مما تسبب فى عجزٍ مزمنٍ في المالية العامة وتراكم الدين العام وإنكشاف الاقتصاد عند حدوث أزمة الركود العالمية الكبرى عام 2019. عليه، بالرغم من نجاحها في إعادة الإعمار المادي، فشلت حكومات الوحدة في تحقيق تحول اقتصادي منتج أو مستدام. تبين تجربة لبنان بأن غياب عقدٍ اجتماعي اقتصادي وازن، وتغوّل المحاصصة الطائفية الزبائنية، وتآكل قدرات الدولة المالية والخدمية، قد كانت مجتمعةً عوامل أضعفت قدرة هذه الحكومات على تحويل “الوحدة” إلى استقرارٍ تنمويّ يُحصِّن السلام.
الدروس والعبر المستفادة لسودان ما بعد الحرب:
تُظهر تجارب الدول الثلاثة أن حكومات “الوحدة الوطنية” يمكن أن تكون رافعاً هاماً لتعزيز الديمقراطية واستدامة السلام عندما تكون مُقنّنة الهدف والزمن ومسنودةً بمؤسسات تحكيم ومساءلة قوية، ومقترنةً بعقدٍ اجتماعي اقتصادي يوزّع مكاسب السلام بكفاءة وعدالة. أمّا عندما تُكون هذه الحكومات على نهج المحاصصة الدائمة وتُهمَل الشرعية الاقتصادية، فأقصى إنجازها قد لا يتجاوز إنتاج سلامٍ بارد وديمقراطيةٍ رخوة، غير مستدامة. عليه، يمكن مقاربة تفسير التباينات الماثلة فى مآلات هذه التجارب فى السياقات التالية:
أولاً، وضوح الهدف وزمنية الوحدة: في جنوب أفريقيا وكينيا، صيغت الوحدة كـ”مرحلة مُؤطَّرة” بمهامٍ دستورية ومؤسسية محددة وسقوف زمنية للإنتقال إلى حالة تنافسٍ طبيعي؛ في لبنان تحوّلت الوحدة إلى بنيةٍ دائمة تُعيد إنتاج المحاصصة وتضعف المساءلة.
ثانياً، مؤسسات التحكيم والمساءلة: قوة المحكمة الدستورية وهيئات التحكيم والرقابة دعمت ديمقراطية مستدامة في جنوب أفريقيا وكينيا، بينما في لبنان تُرجِم “الفيتو” الطائفى إلى شللٍ مؤسسي لا إلى توازنٍ.
ثالثاً، العقد الاجتماعي و”الشرعية الاقتصادية”: حين اقترنت الوحدة ببرنامجٍ اقتصادي -اجتماعي قابل للقياس (إعمار، خدمات، تشغيل، حماية اجتماعية)، ازدادت قابلية السلام للاستدامة وانخفضت كلفة الصراعات الأهلية (جنوب أفريقيا/كينيا). أما غياب هذا العقد (لبنان) فأبقى السلام هشّاً وأضعف جودة الديمقراطية.
عليه، نستخلص التوصيات العملية التالية بالنسبة لسودان ما بعد الحرب:
عرّفْ مهام الوحدة بوضوح: دستور/عدالة انتقالية/إصلاح أمني-مدني/لامركزية مالية-خدمية، مع خطة مبرمجة للإنتقال نحو ديمقراطية تنافسية فى نهاية المطاف.
ابنِ مؤسساتٍ حَوكَمّة قوية: تحكيم دستوري ناجز، قواعد واضحة لاتخاذ القرارات التوافقية تمنع “الفيتو” المُطلق من أىٍ من مكونات الحكومة، إضافة إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس تُراجع دورياً.
اربط التوافق ببرنامجٍ اجتماعي-اقتصادي متين: مشروع ناجز لإعادة الإعمار وبناء منظومة الخدمات الأساسية وشبكات الأمان الاجتماعى الشاملة والموجّهة وإنجاز تحول هيكلى فى الاقتصاد الإنتاجى والخدمى – مستهدفاً نمواً سريعاً (7% سنوياً أو يزيد)، عريض القاعدة لعقدين من الزمان – لتوفير فرص عمل كثيفة ومتنوعة لتحويل الوحدة السياسية من محاصصة إلى عقد اجتماعي مُنتِج.
