نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى حكومات وحدة وطنية لإنجاز المشروع النهضوي؟
بقلم: وزير المالية والتخطيط الاقتصادى الأسبق بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي عبد الساتر
تنشأ حكومات الوحدة الوطنية عادة فى سياقات الأزمات العميقة أو فى أعقاب الحروب الأهلية كآلية لبناء الثقة بين مكونات المجتمع المتصارعة، وتأسيس قاعدة توافقية تعيد اللُحمة للمجتمع والشرعية للدولة ومؤسساتها. فى مثل هذه المجتمعات المنقسمة هوياتياً – إثنياً، جهوياً أو دينياً، تجسد مثل هذه الحكومات ما يسمى ب”تقنية إلتزام” سياسية (political commitment technology) لتجنب العودة إلى معادلات الاصطفاف الهوياتى العدمية المفضية إلى الحروب والنزاعات، إذ يُتوقَّع أن تُتِيح مثل هذه الحكومات توزيعاً أكثر شمولاً وعدالة للسلطة والثروة، وتؤسس لمسار سياسى قائم على التوافق وليس على التَغَلُّب أو حتى على التفويض الإنتخابى الشامل فقط. سنحاجج فى هذا المقال بأن سودان ما بعد الحرب سيكون فى أمس الحاجة لحكومة قومية جامعة لا تستثنى إلا من يجب عزلهم قانونياً من قبيل “الحركة الإسلاموية” ومؤتمرها الوطنى. طبعاً، عزل دعاة الحرب وأعداء الانتقال المدنى الديمقراطى لا يقدح فى مكانة وشرعية التيار الاسلامى الوطنى الذى إنحاز لثورة الشعب وإختياره.
مبادرة الحكومة القومية برأى ترقى لأن تكون أحد مرتكزات العقد الاجتماعى الخمس، القمينة بتعزيز الانتقال الديمقراطى وتثبيت الحالة الانتقالية داخل ذلك “الممر الضيق”، المفضى الى التعزيز المتبادل لقوة المجتمع وقوة الدولة، وبالتالى الإنعتاق من إسر المتلازمة السياسية التى تمثلت فى ظاهرة الحلقة العدمية من الحكومات الديمقراطية قصيرة الأجل والانقلابات العسكرية المفضية إلى أنظمة استبدادية متطاولة، والتى يتم إسقاطها فى نهاية المطاف بواسطة الانتفاضات الشعبية، لتؤسس لحكومات ديمقراطية هشه، متشاكسة، حالما يتم الإطاحة بها بإنقلابات جديدة وهكذا دواليك.
سنعرض أدناه لتجربة الحكومات الديمقراطية السودانية فى سياق مبادرات الحكومة القومية، أو إذا توخينا الدقة، فى سياق المبادرة اليتيمة للسيد الصادق المهدى فى ستينيات القرن الماضى. سنعرض فى المقال القادم لتجارب الدول الأخرى ودلالاتها بالنسبة للقوى المدنية الديمقراطية السودانية، خاصة لجهة العقد الاجتماعى لليمثاق الوطنى المأمول.
مبادرة المصالحة الوطنية والحكومة القومية بعد ثورة أكتوبر 1964:
فى السياق السودانى، كانت دعوة السيد الصادق المهدى فى رئاسته الأولى فى ستينيات القرن الماضى إلى “حكومة كل الجمعية التأسيسة”، إضافة إلى ممثلين عن القوى المدنية الحديثة، كانت بحسب علمى، المبادرة الوحيدة فى ظل عهدة الحكومات الديمقراطية منذ الاستقلال. لقد أدرك رئيس الوزراء الشاب وقتها بعد حوالى عامٍ ونصف من إنتصار ثورة أكتوبر المجيدة بأن معسكر الثورة قد أصابه الضعف والوهن بينما عجز ائتلاف الحزبين البرلمانى عن التصدى للقضايا الوطنية الكبرى، مثل إنهاء الحرب فى جنوب البلاد وبناء السلام. أيضاً، كان يرى أن قوى المجتمع المدنى الحديثة تشعر بغربة تجاه الشرعية الانتخابية ذات القواعد الشعبية التقليدية، مما يستدعى اشراك تلك القوى الهامة لضمان مساهمتها وتعاونها فى مشروع البناء الوطنى الديمقراطى. كانت مبادرة رئيس الوزراء تدعو إلى إجراء مصالحة وطنية تؤسس لتشكيل حكومة قومية تحظى بإجماع واسع وتنجز ثلاث أهداف وطنية كبرى. أولاها وأهمها، إنهاء الحرب الأهلية فى إطار إتفاقٍ شاملٍ للسلام، يعطى جنوب البلاد حكماً إقليمياً واسعاً كحلٍ وسطٍ عوضاً عن مقترح تقرير المصير الذى كانت تطالب به بعض النُخب الجنوبية، لكنه كان يقابل بمعارضة شديدة فى شمال البلاد. كل المؤشرات كانت تشى بأن مقترح الحكم الأقليمى كان سيُحظى بقبول النُخب والشعب فى الجنوب، وسيكون كافياً للوفاء ب”الوعد الفيدرالى” الذى أُعطىَ للقادة الجنوبيين عند إستقلال البلاد لضمان موافقتهم على بقاء الجنوب ضمن السودان الموحد. ثانياً، تنفذ حكومة الوحدة الوطنية نظاماً لامركزياً شاملاً لكل البلاد، شمالاً وجنوباً،تُنقَل بموجبه صلاحيات إدارية ومالية هامة من الحكومة الإتحادية للسلطات الأقليمية. وأخيراً، ثالث هذه الأهداف، تنفيذ مشروع تحول اقتصادى يتم التوافق عليه على مدى دورتين انتخابيتين على الأقل.
لم يوفر رئيس الوزراء آنذاك وقتاً ولا جهداً لمحاولة إقناع القوى السياسية بهذا المشروع الوطنى وكذلك التبشير والترويج له عن طريق اللقاءات الإعلامية و الندوات السياسية لعامة الشعب والمحاضرات الفكرية لكافة أطياف النُخب(1). لكن للأسف لم تدرك الحركة السياسية وقتها أهمية ما كان يدعو له السيد الصادق فى ذلك الزمان الباكر، بل ولم يتوانَ البعض، سامحهم الله، عن وصف مبادرته بأنها محاولة “لتصفية الديمقراطية البرلمانية”. فليتنا نتبنى هذه المبادرة الآن، حتى “بعد، بعد … بعد ضحى الغد”. فبلادنا الآن تواجه تهديداً وجودياً حقيقياً وتحديات أصعب بمراحل من تلك التى كانت قبل ستون عاماً من الزمان.
خاتمة:
التجارب الماثلة تشير إلى أن التحولات الاقتصادية الكبرى فى الدول النامية عادة ما تتم فى ظل نُظُم “الشمولية التنموية”، لأنها تفرض مشروعاً اقتصادياً برامجياً تحشد له كل إمكانيات الدولة لعدة عقود، بينما تفتقر النظم الديمقراطية الهشه إلى التوافق والإستمرارية المطلوبة لنجاح هكذا مشروع كنتيجة لتسيد حسابات التنافس الحزبى الصفرية، كما كان الحال فى تجربة الحكومات البرلمانية فى بلادنا. أيضاً، تجربتي نظام الجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي ونظام الإنقاذ السوداني تبين بجلاء أن “الاستبداد التنموي” لديه فرصة أفضل للبقاء والإنجاز مقارنة ب”النظام الكليبتوقراطي” الصريح. ومع ذلك، فإن الدروس المستفادة من فشل الأول في الحفاظ على السلام في إثيوبيا المنقسمة اجتماعياً بشكل كبير لا تقل أهمية. لهذا، لا سبيل لقيامة السودان – المنقسم اجتماعياً بنفس القدر، والذي لا يزال يترنح تحت تركة حكم كليبتوقراطي مدمر تمثلت في الانهيار الاقتصادي السحيق وعدم الاستقرار السياسي الحاد ومؤخراً الحرب العسكرية الفصائلية الحالية – من دون الديمقراطية التوافقية، البرامجية وأهم أدواتها “حكومة الوحدة الوطنية”.
عليه، فإن بناء ديموقراطية متينة تحقق السلام والتنمية يتطلب من النُخب الانتقالية والمنتخبة لاحقاً أن تختار “الرهان على التنمية” والسعي إلى “الشرعية الاقتصادية” وعدم الاكتفاء بـ”الشرعية السياسية” الإنتقالية أو الانتخابية. ولضمان أن يكون لمعظم الفاعلين السياسيين، إن لم يكن جميعهم، حصة ودوراً في نجاح النظام الديمقراطي واستقراره، فإننا نزعم بأن هناك حاجة ملحة إلى تشكيل حكومات وحدة وطنية لحقبة ما بعد الحرب، بما في ذلك الفترة الانتقالية وكذلك لفترة عُهدتى الحكومتين الديمقراطيتين اللاحقتين، بعد انتخابات مفتوحة ونزيهة. وبطبيعة الحال، ستعكس مثل هذه الحكومة الأوزان النسبية للمتنافسين في الانتخابات، ولكن لا ينبغي أن تقوم على أساس التنافس الانتخابي البحت. كما أوضحنا في دراسات أخرى(2) ، في ظل حكومات جبهة وطنية تمتد لما يقارب العقدين من الزمان، وتحت توافق وطني عريض على عقد اجتماعي متين، يمكن تحقيق مشروع تحول اقتصادي نهضوي عميق، يبدأ بإعادة الإعمار وصولاً لتحقيق معدلات نمو سنوية متواترة تقارب 10%، إستناداً إلى التحول الهيكلى فى القطاع الزراعى، مما سيؤدى إلى مضاعفة الاقتصاد السوداني بحوالي ثمانية مرات خلال جيل واحد(3). سوف لن يؤدى هذا الإنجاز فقط إلى توسيع الطبقة الوسطى وبالتالي ترسيخ الديموقراطية بصورة عامة، بل سيكون فعالاً في تعزيز التعاون والاندماج الأثني والجهوي في المجتمع السوداني الذي ظل يعاني من الاستقطاب والانشطارات الهوياتية وتوظيفها سياسياً وعسكرياً من قبل النخب الشمولية.
————————-
راجع كتاب رباح الصادق المهدى (2019). الإمام الصادق المهدى: سيرة ومسيرة – بينج ما ريال. الجزء الأول، النسخة الثانية، صالون الإبداع للتنمية والثقافة.
أنظر البدوى وآخرون (2023) والبدوي وفيوراتى (2024):
Post-Conflict Reconstruction, Stabilization and Growth Agenda for Sudan
قانون ال 70 يحدد عدد السنوات المطلوبة ليتضاعف عدد ما (حجم الناتج محلى،رصيد حساب التوفير …إلخ.) وذلك بقسمة 70 على معدل نمو ذلك العدد السنوى (أنظر هذا الرابط: Rule of 70 للمزيد من التفصيل).
