نحو نظام “تنفيذي-تشريعي” هجين من أجل الإستقرار والإنتقال التنموي
بقلم: وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي عبد الساتر
“النظام السياسي الجديد المطلوب لتحقيق الاستقرار هو نظام ديمقراطي يستفيد من دروس التجربة الماضية ليقيم ديمقراطية توافقية تحد من غلو الديمقراطية التنافسية المطلقة، ولكن تلتزم بكفالة حقوق الإنسان والمشاركة والمسائلة والشفافية وسيادة حكم القانون. وينبغي تبني النظام الرئاسي الأمريكي أو الفرنسي لإعطاء السلطة التنفيذية قوة مطلوبة للاستقرار، خاصة مع عيوب التجربة البرلمانية السابقة التي ضيعت المصالح في المساومات والمزايدات السياسية.”
(الإمام الصادق المهدى، يسألونك: كبسولات متنوعة، ص:59)
“هذا التعبير “الديمقراطية الجديدة” جاءنا من الصين ودخل على أدبياتنا الحزبية بلا دراسة وبلا تقييم وبلا عناية. وما يزال ماثلا في كثير من أدبياتنا الحزبية. وأعتقد أن موقف الحزب الشيوعى في ذلك الوقت من نظام نميرى كان يستند إلى هذا الفهم. إن أزمة النظام البرلمانى لا تحل بمصادرة الديمقراطية ونظام دكتاتورى.”
(الأستاذ محمد ابراهيم نقد، مقابلة مع موقع الحوار المتمدن، أبريل، 2012)
مقدمة:
رغم إختلاف المنطلقات، إلا أن المقتطفين أعلاه يشيان بأن الزعيمين الراحلين، عليهما الرحمة والرضوان، كانا يدركان قصور النظام البرلمانى الذى طبع نهج الممارسة الديمقراطية بالبلاد. فبينما دعا استاذ نقد إلى مراجعةٍ إصلاحيةٍ لأداء التجربة البرلمانية السودانية، عوضاً عن استبدالها بنظمٍ شمولية، ذهب الإمام الصادق إلى ضرورة تبنى نظامٍ هجين، رئاسى-برلمانى. أيضاً، يبدو أن هذا الموضوع الهام لم يكن غائباً تماماً من بعض حوارات القوى الوطنية. مع ذلك، لم تذهب الحوارات الوطنية بشأن النظام السياسى الأمثل للسودان أبعد من ذلك. لهذا تظل هناك أسئلة حائرة عن: لماذا فشلت النخب السودانية في التَعلُّم من التجارب المخيبة للآمال للحكومات الائتلافية البرلمانية المنقسمة وغير المستقرة في ظل ديمقراطية وستمنستر؟ ولماذا تبنت النخب المتلاحقة بشكل أعمى برلمانية ويستمنستر ولم تفكر ولا زالت في أنظمة سياسية بديلة قد تكون أكثر قدرة على التكيف مع الاستقطاب الاجتماعي والسياسي المتأصل الذي كان عليها أن تتعامل معه؟
قدمت فى مقالات سابقة نموذجاً لعقد اجتماعى سودانى يتكون من سبع مرتكزات وينقسم إلى مرحلتين. أولاهما، تشمل محورى الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية، باعتبارهما ركيزتين متلازمتين لأي انتقال ناجح، يمكن معه أن تدخل البلاد ذلك الممر الضيق نحو الحرية والتطور. المرحلة الثانية تحتوى على خمس استحقاقات وطنية معنية بتعزيز الانتقال الديمقراطى النهضوى للإنعتاق من “المتلازمة السياسية” التى أعاقت مشروع البناء الوطنى السودانى منذ الإستقلال.
بلا شك قد حان الوقت للنظر فى موضوع نظام الحكم كأحد الأهداف الاستراتيجية فى سياق المرحلة الثانية من مصفوفة العقد الاجتماعى المأمول. تحدثنا سابقاً عن قضيتى “الشرعية الاقتصادية” ومعالجة الإرث الفيدرالي الكارثي لنظام الإنقاذ البائد. عليه، نخصص هذا المقال لمناقشة نقدية لنظام الحكم البرلمانى والنظر فى جدوى الانتقال إلى نظام تنفيذى-تشريعى هجين. ويبقى لنا موضوعى “الحكومة القومية” و”السردية الوطنية” اللتان سنعرض لهما فى مقالات قادمة، بإذن الله.
أولاً، لماذ النظام السياسى “التنفيذى-التشريعى” الهجين:
براى، بالرغم من أن النظام الرئاسي الأوتوقراطي كان كارثياً على البلاد، إلا أنه قد يكون أفضل بكثير في ظل الديمقراطية. وعلى وجه الخصوص، قد يكون النظام الرئاسي – البرلماني المختلط مع مجلسين تشريعيين أكثر ملاءمة للسودان. إن التعايش بين رئيس منتخب شعبياً ورئيس وزراء منتخب بالأغلبية البرلمانية الذي يفرضه هكذا نظام، كما هو الحال في النظام الفرنسي مثلاً، يحقق التوازن الصحيح بين الاستقرار السياسي الذي تشتد الحاجة إليه من جهة، وتقييد السلطة الرئاسية من جهة أخرى. أيضاً، يوفر هذا النظام قسمة فعالة للصلاحيات بين الرئيسين، حيث عادة ما يُسند لرئيس الدولة الصلاحيات السيادية العليا مثل السياسة الخارجية والإشراف على القضاء والقوات النظامية.. إلخ، بينما يتولى رئيس الوزراء السياسات الداخلية مثل إدارة الاقتصاد وشئون الحكم الاتحادي.. الخ. وعلاوة على ذلك، فإن الهيئة التشريعية المكونة من مجلسين على غرار النظام السياسي الأمريكي لا شك ستساهم في مأسسة التوازن بين الأقاليم على مستوي السلطة المركزية. فوفقاً لهذا النظام، ستكون الأقاليم ممثلة بالتساوي في غرفة المجلس الأعلى، وبما يتناسب مع حصتها من إجمالي عدد سكان البلاد في المجلس الأدنى. فبينما يكون مستوى تأثير الأقاليم متساوياً في الغرفة العليا صاحبة القرار في التشريعات والإشراف السيادي، مثل إجازة تعيين قضاة المحكمة العليا، تكون نسبة التأثير في الغرفة الدنيا للأقاليم ذات الثقل السكانى العالى، مثل الخرطوم والأوسط ودارفور وكردفان.
يمكن إثراء الحوار الوطنى حول النظام السياسي الهجين كخيار لمستقبل سودان ما بعد الحرب عبر استعراض تجارب دولية ناجحة وأخرى متعثرة لأنظمة الحكم المختلطة (الرئاسي – البرلماني)، مع التركيز على قدرة الأولى على تحقيق التحول التنموي والاستقرار السياسي، وهما جوهر الأزمة السودانية التاريخية. فيما يلي عرض تحليلي مقارن يهدف لإستخلاص بعد الدروس والعبر المهمة بهذا الشأن.
ثانياً: تجارب النجاح النسبي:
أ. فرنسا – النموذج الكلاسيكي للنظام شبه الرئاسي: النظام الفرنسي الذي تأسس مع الجمهورية الخامسة عام 1958 يُعدّ النموذج الأبرز للنظام الهجين، حيث جمع بين الشرعية الشعبية للرئيس والمسؤولية البرلمانية للحكومة. لقد أدى هذا التوازن إلى استقرار سياسي نسبي بعد عقود من الانقلابات وضعف الائتلافات في الجمهورية الرابعة؛ مكّن البلاد من قيادة خطط تنمية طويلة الأمد مثل مشروع “التحول الصناعي” في الستينيات، والتوسع في البنية التحتية، وتوحيد السياسات الخارجية والدفاعية؛ كما ساعدت ازدواجية السلطة التنفيذية على امتصاص الأزمات (كما في تجربة “التعايش” بين الرئيس ميتران ورئيس الوزراء شيراك خلال عقد الثمانينات من القرن الماضى: 1986-1988).
ب. البرتغال – التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية المستقرة: بعد ثورة القرنفل (1974)، تبنت البرتغال نظاماً شبه رئاسياً يتيح للرئيس دوراً تحكيمياً دون تغول على الحكومة المنتخبة. أسهم هذا النظام في حماية الديمقراطية الوليدة خلال المراحل الانتقالية، ونجحت البرتغال لاحقاً في تحقيق نمو اقتصادي مستدام والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مع مؤسسات رقابية قوية.
ت. غانا – الديمقراطية الرئاسية المؤسسية: على الرغم من كون النظام الغاني رئاسياً أكثر منه هجيناً، إلا أنه يُظهر كيف يمكن للرئاسة أن تنجح حين تُقيَّد بمؤسسات دستورية فاعلة. منذ 1992 حققت غانا عدة انتقالات سلمية للسلطة، وتحولاً اقتصادياً تدريجياً مع نمو متوسط 5-6% سنوياً، وتعكس التجربة كيف أن وضوح الصلاحيات واستقلال القضاء والهيئات الانتخابية يحد من “اللعبة الصفرية” بين القوى السياسية.
ثالثاً: تجارب التعثر أو الفشل:
ث. نيجيريا – الرئاسة الطاغية وتناقض الفيدرالية: اعتمدت نيجيريا نظاماً رئاسياً اتحادياً شبيهاً بالولايات المتحدة، لكن تغوّل الرئاسة وفساد النخب عطّلا مبدأ الفصل بين السلطات؛ وضعف الأحزاب ومؤسسات المساءلة أدى إلى دوامة من الانقلابات والحروب الأهلية؛ بينما أسس التوزيع الريعي لعائدات النفط إلى تكون اقتصادٍ زبائنىٍ هشٍ.
ج. أوكرانيا – الصراع بين الرئيس والبرلمان (قبل الحرب الحالية): شهدت أوكرانيا منذ 1991 تعديلات متكررة بين النظام الرئاسي والبرلماني، ما أدى إلى ازدواجية في الشرعية التنفيذية بين الرئيس ورئيس الوزراء؛ شلل في القرار السياسي وتنازع مستمر حول الصلاحيات؛ وهشاشة أمام الضغوط الخارجية والأزمات الاقتصادية.
رابعاً: الدروس والعبر المستفادة للسودان:
بالنسبة للتجارب الناجحة لنظم الحكم الهجين، هناك دروس وعبر متكاملة يمكن استقرائها من تجارب البلدان الثلاث:
تجربة فرنسا تشير إلى إمكانية تحقيق التوازن بين الشرعية الديمقراطية والاستقرار المؤسسي، مع ضمان تمثيل الأقاليم في مجلس تشريعي ثنائي يحد من احتكار المركز للسلطة.
نموذج البرتغال قد يكون الأنسب لسودان ما بعد الحرب، حيث يحتاج النظام إلى رئيس قوي رمزياً يضمن وحدة البلاد، وحكومة برلمانية فعّالة تركز على التنمية وإدارة التنوع.
النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي لدولة غانا – الأقرب للسودان من حيث التنوع الإثنى ودرجة التطور الاقتصادى – يمكن أن ينجح في السودان إذا أُطِّر بضمانات دستورية قوية، وحُصّنت المؤسسات الرقابية ضد التسييس.
أيضاً، هناك دروساً مهمة من تجربتى نيجيريا وأوكرانيا (قبل الحرب الحالية)، اللتان لم يحققا قدراً كبيراً من النجاح. فتجربة نيجيريا تشى بأن الهندسة الدستورية وحدها لا تكفي، بل يجب أن تُبنى على ثقافة مؤسسية، ونظام حزبي منضبط، وعدالة في توزيع الموارد الاتحادية. بينما تشير حالة أوكرانيا (قبل الحرب الحالية)، والتى غلُب عليها صراع الصلاحيات، إلى أنه ينبغي أن يُصاغ النظام الهجين في السودان بوضوح دستوري كامل يحدد اختصاصات كل طرف، ويمنع ازدواجية الولاءات داخل الجهاز التنفيذي.
خامساً: التوصيات والخطوات العملية لتطبيق النظام المقترح في السودان:
تأسيساً على ما تقدم، فإن النظام الهجين الرئاسى – البرلماني بمجلسين تشريعيين يمكن أن يمثل صيغة وسطية تلائم السودان، شريطة أن يُحدَّد دستورياً نطاق صلاحيات كل من رئيس الدولة ورئيس الوزراء؛ تُبنى مؤسسات انتخابية وقضائية مستقلة؛ تُعتمد فيدرالية مالية حقيقية تُمكِّن الأقاليم من المشاركة في التنمية الوطنية؛يُصاحب ذلك تحول اقتصادي مؤسسي يوجّه موارد ما بعد الحرب نحو العدالة الاجتماعية والبنية التحتية، لا نحو إعادة إنتاج الزبائنية السياسية. تحديداً، التوصيات أدناه يمكن أن تشكل مرتكزاتٍ عمليةٍ لمقاربة تشكيل النظام السياسي الهجين المقترح، المفضى بإذن الله، إلى بناء دولة سودانية ديمقراطية مستقرة قادرة على تجاوز دوامة الانقلابات والحروب الأهلية:
صياغة دستور انتقالي مرن: يتبنى النظام الهجين بوضوح مع آليات تفصيلية لفض النزاعات بين السلطتين التنفيذيتين، وإعادة توزيع السلطات بين المركز والأقاليم.
تشكيل مجلسين تشريعيين متكاملين: مجلس أعلى يمثل الأقاليم بالتساوي، ومجلس أدنى يعكس حجم السكان لضمان توازن التمثيل.
إنشاء مفوضية اتحادية مستقلة للحوكمة: تتولى مراقبة الفصل بين السلطات وتقديم المشورة الدستورية في حالات التنازع المؤسسي.
إصلاح النظام الحزبي: باعتماد قوانين تشجع على الائتلافات الواسعة وتمنع التشظي الحزبي، ما يضمن استقرار الحكومة البرلمانية.
إعادة هيكلة الخدمة المدنية والمؤسسات الاقتصادية: لتمكين النظام الجديد من إدارة الموارد بكفاءة وعدالة.
تعزيز الثقافة الديمقراطية: من خلال التعليم والإعلام وبرامج توعية مستمرة، لترسيخ مفاهيم المشاركة والمساءلة.
