“سرديات”.. غيهب الليل الحلوك

بقلم: زاكي عبد الحميد أحمد

…ثم كان الحديثُ *عن غيهب الليل الحلوك*، ذا شجونٍ، ومترعاً بأسئلة حيرى!

حين أسمعها بصوت الراحل الفنان الكبير خضر بشير؛  كان الطرب يستخفني  كمنجذب حلقت به  لحظة الانشداه والتجلي؛ إلى دنياوات أُخر…

الفنان الكبير خضر بشير؛ رحمه الله؛ كان لا يرفض لنا طلبا، حين نوجه له الدعوةَ،  لمرافقتنا في الرحلات،  التي كانت الجمعيات الأكاديمية في الجامعة،  تنظمها من وقت لآخر، بقصد الترفيه والترويح عن النفس..

أذكر أن آخر هذه الرحلات كانت إلى السبلوقة،  حيث الشلال..شاركت في أكثر من رحلة،  كانت وجهتها هذه المنطقة الساحرة بجمالها الطبيعي الآسر..

كان فنان الرحلة هو خضر بشير رحمه الله..كنا دائما نكلف زميلا لنا من أهالي شمبات،  لينسق مع المطرب الكبير،  قبل موعد الرحلة بوقت كاف..كان يرافقه موسيقار اسمه اسماعيل يعزف على آلة الموندلين..رجل ماهر في العزف وهاديء الطباع؛ هو من كان يحدد الأغنية للفنان..يبدأ اسماعيل العزفَ،  فينطلق خضر بشير الى عالم الطرب بكل أحاسيسه..يشدو بصوته العذب؛  وبأدائه المسرحي؛ فتشتعل الساحة رقصا ونشاطا..

أغنية محمد بشير عتيق بصوت خضر بشير،  تتصدر قائمة أغنياتي المفضلة..حين عرفت ان اسماعيل هو من يحدد الأغنية للفنان يومذاك،  قصدته وطلبت منه أن يعزف أغنية *الأوصفوك* لكي يؤديها لنا الفنان..
بلطف جم قال لي لن يغنيها لكم حتى لو عزفتها!
حين زاد الحاحي عليه قال لي:
-شوفو انت يمكن يرضى ليكم..

في الفاصل طلبت من الفنان الكبير أن يغني لنا أغنية عتيق..

-يا ابني *الأوصفوك* دي ما بتاعت رحلات..دي تسمعا بس وانت في حالة انصات تام..
ثم سألني: سمعتها كم مرة ومن منو؟
أجبته بأنها أغنيتي المفضلة؛ وأسمعها عادة بصوته هو لا غير..
قال لي: ركز في كلمات عتيق لمن يقول:
*كيف يجهلوك،*
*وعلى الجمال العادي*
*راحوا يمثلوك*
*ولو بادلوك عين الحقيقة*
*أو بالبصيرة تأملوك*
*بالنور أو بالنار*
*أو بقدر ما صاغ الخيال*
*ما عادلوك!*

جمال يفوق الوصف؛ هذا ما أراد تأكيده لي الفنان الكبير..

منذ ذلك الحين بدأت اهتم اكثر بمعاني المفردات ومغازيها في الأغنية،  فتتضح لي الصورة التي تجعل من الملهمة؛  ذات جمال لا يقارن مع أي جمال؛ شوهد أو كُتب عنه..اسمعه يقول:

*كوكب منزه في علوك*
*سحرك غريب*
*شخصك بعيد*
*أو كان قريب*
*أنواره آخذة بدون سلوك*
*يبرق سناك*
*في غيهب الليل الحلوك*

وصفٌ عجيبٌ، ما صاغه عتيق..والفنان الكبير كان محقا حين قال *الأوصفوك* ليست للرحلات، وإنما للسمع وبتركيز..

الإعلامي المميز بثقافته العالية، الأستاذ *غسان علي عثمان*، استضاف في برنامجه الذي يترقبه المشاهدون كل أسبوع؛  ضيفا كريما ذات حلقة..عقد الضيف في برنامج *الوراق*،  مقارنةً بين أغنية عتيق والسونتة ١٨ لشاعر الانجليز الأشهر شكسبير..

في قصيدته شكسبير يقارن بين جمال “الحبيب” وجمال *يوم صيفي* ويشير إلى أن جمال “الحبيب” Fair Youth
يتجاوز  جمال أي يوم صيفي؛ لأن الصيف يزول وجمال المحبوب باق كما هو لا يتغير مهما تغيرت الأنواء..

يفتتج شكسبير قصيدته بسؤال:

*Shal I compare thee to a summer’s day?*
*Thou art more lovely*
*And more temperate*

وترجمته إلى العربية تكون:

*من ذا يقارن حسنك المغريَّ*
*بصيف قد تجلّى؟*
*وفنون سحرك قد بدت في*
*ناظري أسمى وأغلى..*

بعد حلقة الوراق المميزة تلك؛ رأيت أن أترجم قصيدة *الأوصفوك* إلى الإنجليزية،  واعرضها على زملائي في مجموعة تعنى فقد بترجمة الشعر والأدب؛ من العربية إلى الإنجليزية ومن الإنجليزية إلى العربية؛ بقصد تسليط الضوء أكثر على وجه المقارنة بين القصيدتين:

Those who compared you to the moon’s pale light

Or flowers, didn’t do your beauty right.

How could they grasp your splendor so divine,

And liken you to beauty that’s merely fine?

If they’d been honest, with insight so true,

They’d compare you to light, fire, or beauty anew.

Yet still, their words would falter and fall short,

For your charm is unmatched, a celestial thought.

You’re a planet, glorified in your height,

Your enchantment unparalleled, day or night.

Your presence illuminates, without a peer,

Your smile, like lightning, banishes all fear.

Good manners adorn you, like a royal crown,

Politeness and fame, like antelopes, renowned.

You possess the charm of kings, so refined,

A true gem, with beauty that’s one of a kind.

*الاوصفوك*
*بالبدر* ..
*أو بالزهر …*
*هم ما أنصفوك*

*كيف يجهلوك*
*و علي الجمال العادي*
*راحوا يمثلوك*
*و لو بادلوك عين الحقيقة*
*أو بالبصيرة تأملوك*
*بالنور أو بالنار*
*أو بقدر ما صاغ الخيال*
*ما عادلوك*

*كوكب منزه في علوك*
*سحرك غريب*
*شخصك بعيد*
*أو كان قريب*
*انواره آخذه بدون سلوك*
*يبرق سناك*
*في غيهب الليل الحلوك*
*أظرف شمايل زاملوك*
*و هم أكملوك*
*أدبك هبة فيك موهبة*
*شكل الظباء*
*وطبع الملوك*

بعد تحليل القصيدتين تباينت آراء أعضاء المجموعة حول اوجه المقارنة،  وتمحورت بشكل رئيس، حول من الشخص الذي يخاطبه الشاعران.؟.

قلت لهم بدون تردد،  عتيق يخاطب ملهمة بصيغة المذكر؛ لان مجتمعَنا المحافظ، كان لا يقبل الزجَّ بالنساء في الغناء..

في قصيدته شكسبير كان يغازل *فتىً،* ولم يتردد في أن يجعل عنوان القصيدة الغزلية:
The Fair Youth
أي *الفتى الوسيم*.

ليس في هذه القصيدة وحدها  وإنما خصص ١٢٦ قصيدة من مجموع قصائده الغزلية البالغ عددها ١٥٤ سونتة لفتاه الوسيم!!   The Fair Youth..

أخذ نقاشنا منحنى آخر  كانت محصلته النهائية ان شكسبير في نظر بعض النقاد بشهادة هذه القصيدة؛ وصويحباتها؛ لم يكن بعيدا عن دائرة الانحراف!

هل كان إذن،  عقد مقارنة بين ملهمة عتيق وملهم شكسبير، في سياق الجمال البشري مقبولاً، كما رسم لنا ملامحَه الضيفُ الكريمُ، يومذاك؟

ربما!

وربما  لا!

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.