نحو “فيدرالية تنموية” على أساس الأقاليم ومحليات “المدن المنتجة”: لماذا الحاجة إلى إلغاء الولايات ؟
بقلم: بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي عبد الساتر، وزير المالية والتخطيط الاقتصادى السابق الأسبق ،والمدير التنفيذي لمنتدى الدراسات والبحوث الإنمائية
مقدمة:
فى سياق مصفوفة الأهداف الاستراتيجية الأولى لمشروع إنهاء الحرب والانتقال المدنى الديمقراطى، ركزت بالتفصيل فى مقالات سابقة على محورين أساسين: الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية، باعتبارهما ركيزتين متلازمتين لأي انتقال ناجح، يمكن معه أن تدخل البلاد ذلك الممر الضيق نحو الحرية والتطور. إلا أن مشروع البناء الوطنى، كما أشرت، لن يكتمل دون التوفر على برامج وأدوات لتعزيز قدرة المجتمع (أى القوى المدنية الديمقراطية) فى معالجة الثلاثية المدمرة التى تسببت فى انتكاسة الانتقالات الديمقراطية السودانية المتمثلة: (أ) فى الاستقطاب السياسى؛ (ب) عدم التوافق على رؤية وبرنامج اقتصادى لمعالجة التركة الاقتصادية للأنظمة الشمولية المتطاولة وتحقيق تحولات تنموية جذرية لمخاطبة جذور التخلف والنزاعات؛ (ت) وضعف مؤسسات التحكيم الرسمية والمجتمعية لمعالجة صراع الرؤى وتضارب المصالح. أيضاً، قطعت بأن معالجة هذه “الثلاثية المدمرة” يستدعى تضمين خمس قضايا محورية فى “العقد الاجتماعى” لمشروع البناء الوطنى المنشود. كانت أولاها قضية “الشرعية الاقتصادية” التى تعرضنا لها سابقاً.
القضية الثانية موضوع هذا المقال هى معالجة الإرث الفيدرالي الكارثي لنظام الإنقاذ البائد والتى أعتقد أنها من أهم استحقاقات الشق السياسي وأيضاً الاقتصادى للعقد الاجتماعي. سأدعو فى هذا السياق إلى النظر بجدية فى إمكانية إلغاء الولايات والاعتماد على ثلاث مستويات للحكم: اتحادية، إقاليمية ومحلية حول المدن الكبرى لبناء نظام للفيدرالية التنموية. قد تبدو هذه الدعوة للبعض متعجلة أوغير واقعية بالنظر إلى أن هذه الولايات قد أصبحت أمراً واقعاً وهناك أصحاب مصلحة من كيانات أهلية وقادة محليين لا يمكن تجاوزهم. لكن دعنا نحدد إطاراً مفاهيمياً لتحديد ماذا نريد من النظام الفيدرالى لمجتمع متنوع بل ومتنافر جغرافياً وإثنياً كالسودان. براى، إن النظام الفيدرالى الذى يناسب هذا الواقع لابد أن يحقق ثلاث أهداف محورية:
أولاً، فى مجتمعنا السودانى البالغ التنوع والتباين الإثنى والجغرافى، لا يمكن أن تنجح المركزية القابضة، لا سياسياً ولا اقتصادياً، عليه ينتظر أن تحقق الفيدرالية إنتقالاً واسعاً وحقيقياً للسلطة من المركز إلى الأقاليم، تتنزل بصورة عادلة بين كافة المكونات المجتمعية وتؤدى إلى تعزيز اللُحُمة المجتمعية بين هذه المكونات.
ثانياً، يُتوقع أن تتمكن مستويات الحكم الإقليمية من تحقيق “حيز مالى” (fiscal space) مناسب يمكنها من الوفاء بتوفير الخدمات وبناء المصالح العامة (المؤسسات، البنيات التحتية …إلخ) فى حدود مسئولياتها الدستورية فى إطار نظام الفيدرالية المالية المعتمدة، مع الإقرار بحاجة بعض هذه المستويات الفقيرة نسبياً إلى الدعم “الرأسى” من المركز.
ثالثاً، يفترض أن تساهم الأقاليم كشريك أصيل مع المستوى المركزى فى توظيف التنوع الأقليمى فى الجغرافيا والموارد لتطوير وتنويع الاقتصاد الوطنى، خاصة عن طريق بناء محاوراً للنمو حول المدن الكبرى.
سنبين فى ما تبقى من هذا المقال بأن النظام الفيدرالى الحالى المستند إلى الولايات يشكل العائق الرئيس لتحقيق هذه الأهداف.
الولايات السودانية بؤر الإستقطاب والنزاعات الإثنية:
قام نظام الإنقاذ البائد بتقسيم السودان إلى تسع ولايات عام 1991، ثم جرى زيادة عدد الولايات تدريجياً حتى وصل إلى 26 ولاية في عام 1994. وبعد تقسيم البلاد أصبح عدد الولايات فى جمهورية السودان (الجزء الشمالى من البلاد) 16 ولاية، أُضيف إليها لاحقاً ولايتين ليصبح العدد 18 ولاية. وقد كانت السردية الرسمية بأنه استناداً إلى التنوع الإثنى والجغرافى في البلاد وتطلعات السكان المحليين إلى المشاركة في إدارة شؤونهم المحلية، اعتمدت الحكومة المرسوم الدستوري الثاني عشر للانتقال إلى جمهورية اتحادية ذات مستويات حكم اتحادية وحكومية ومحلية، مع توزيع المسؤوليات المتعلقة بالنفقات والإيرادات وفقاً لذلك. علاوة على ذلك، كان لكل ولاية عدد من المحليات كمستوى أدنى من الحكم. إلا أن الأهداف السياسية الحقيقية من الانتقال لما سمى بنظام “الحكم الاتحادى” كانت تتمثل فى توظيف فكرة “الفيدرالية الشعبية” كأداة لتوسيع قاعدة النظام السياسية وتفكيك النفوذ التاريخي للأحزاب القومية التاريخية (الأمة، الاتحادي):
خلق مراكز ولاء محلية للنظام عبر تعيين ولاة موالين للحركة الإسلاموية.
تفكيك البنية الاجتماعية والسياسية للأقاليم الكبرى (دارفور، كردفان، الشرق، الشمال، والوسط).
استخدام الولايات كوحدات سياسية وإدارية لتوزيع المناصب والموارد لزعماء المناطق والقبائل حسب منهج الزبائنية السياسية لشراء الذمم والولاء السياسى.
عليه، كنتيجة لسعى النظام لإستخدام الولايات كأداء لبناء قاعدته الشعبية على أساس الزبائنية السياسية بين مركز السلطة في الخرطوم والنخب القبلية في هذه الولايات وتدمير القواعد الشعبية للأحزاب التاريخية العابرة للقبائل والكيانات الإثنية، أصبحت هذه الولايات بؤراً للاستقطاب والنزاعات القبلية في سياق الصراع من أجل النفوذ والريع المترتب عليه. فبحسب دراسة أعدها موقع الجزيرة نت عام 2022(1)، شهدت عدة ولايات نزاعات بين القبائل والكيانات الأثنية كما موضح أدناه:
ولاية البحر الأحمر: البنى عامر والهدندوة؛ البنى عامر والنوبة؛ والبنى عامر والرشايدة.
ولاية كسلا: البنى عامر والسبدرات (ذات الأصول الجعلية).
ولاية القضارف: البنى عامر والنوبة.
ولاية شمال كردفان: الكبابيش والحمر؛ دار حامد والكواليب.
ولاية جنوب كردفان: الحوازمة وكنانة؛ النوبة والحوازمة.
ولاية (إقليم) النيل الأزرق: الفونج والهوسا.
ولاية غرب كردفان: المسيرية والحمر؛ الجخيسات (فرع من قبيلة الحمر) والمناصرة (فرع من قبيلة المناصير فى كردفان)؛ أولاد صبيح والجمعانية (فرعان لقبيلة حمر)؛ الزيود وأولاد عمران (فرعان من قبيلة المسيرية).
ولاية شرق دارفور: الرزيقات والمعاليا
بين ولايتى غرب كردفان وشرق دارفور: المسيرية والرزيقات؛ الحمر والمعاليا
ولاية شمال دارفور: البنى حسين والرزيقات؛ الزغاوة والرزيقات؛ البرتى والرزيقات.
ولاية غرب دارفور: المساليت والرزيقات؛ الرزيقات والمسيرية الجبل؛ القمر والرزيقات؛ القمر والتاما.
ولاية وسط دارفور: قبيلتى التعايشة والمسيرية ضد السلامات.
ولاية جنوب دارفور: الرزيقات والفلاته؛ قبيلتى الفلاته والسلامات ضد الهبانية؛ التعايشة والفلاته؛ القمر والبنى هلبة؛ الفلاته والمساليت؛ الرزيقات والهبانية؛ الرزيقات والبنى هلبة.
قصدنا من هذا التوثيق الضافى عن حصاد هذه الولايات المر تبيان الحقيقة التى لا مراء فيها بأن هذه الولايات “الإنقاذية” بدلاً من أن تؤدى إلى “تعزيز اللُحُمة المجتمعية بين مكوناتها” قد أدت إلى تدمير النسيج الاجتماعى فى البلاد وإعادة عقارب الساعة للوراء نحو حالة من التناحر القبلى والإثنى، والذى للأسف تعمَّد وترسخ جراء فتنة هذه الحرب الماحقة. وهنا أود أن أتمنى على سائر النخب السودانية، مهما كانت تحفظاتهم، تثمين الترات الطائفى لكيانىِّ الأنصار والختمية وسائر الطرق الصوفية التى ساهمت فى ترقية الحالة السياسية السودانية فى سياق صيرورة تاريخية ممتدة من مستوى الجغرافيا القبلية-الإثنية لفضاء الأحزاب والكيانات العابرة للقبائل والإثنيات، وقد كان هذا لعمرى إنجازاً وطنياً هاماً، للأسف يتعرض الآن للتجريف الممنهج فى ظل هذه الحرب.
الولايات السودانية كتجربة فاشلة للفيدرالية المالية:
كما رأينا فقد كان إنشاء الولايات على أساس التقسيم الإثنى استراتيجية متعمدة لترسيخ الفيدرالية القائمة على المحسوبية والتى أفضت إلى الاستقطاب والنزاعات بين هذه الكيانات الإثنية فى سياق تنافس زعمائها ونخبها على ريع السلطة المركزية. وقد كتب أستاذا الاقتصاد السودانيان، البروفيسور حامد التيجانى على (أستاذ السياسات العامة والاقتصاد بمعهد الدوحة للدراسات العليا) وبروفيسور ندى عيسى (أستاذ مشارك في السياسة العامة والاقتصاد بجامعة جورجتاون الأمريكية)، كتبا ورقة ضافية لمنتدى البحوث الاقتصادية نشرت عام 2022 (2)، وثقت كيف أضفى نظام الإنقاذ الطابع المؤسسي على التبعية السياسية عن طريق تشبيك النخب القبلية المحلية بالسلطة المركزية في الخرطوم بواسطة التحويلات العشوائية والتعيينات الإدارية، بدلاً من تمكين المواطنين من خلال الاستقلال المالي المستند لقواعد الفيدرالية المالية المؤسسية. خلصت الدراسة إلى أن نتيجة هذه الزبائنية الولائية تكون دولة فيدرالية إسماً لكن الواقع يعكس حالة ولايات ضعيفة مالياً، متضخمة إدارياً، ومستقطبة سياسياً.
أفادت الدراسة بأن جذور هذا الخلل يعود إلى المركزية المالية الفعليّة في السودان، فعلى الرغم من مظهر اللامركزية، احتفظت الحكومة الاتحادية بالسيطرة المهيمنة على الإيرادات والإنفاق، مع تقلب التحويلات الحكومية وفقاً للمصلحة السياسية وتأرجح عائدات النفط. فخلال طفرة النفط (1999-2010)، ارتفعت التحويلات الاتحادية الرأسية من أقل من 10% إلى ما يقارب 40% من الإيرادات الفيدرالية، لكن توزيعها كان عشوائياً ولم يتسم بالعدالة. فعلى سبيل المثال، حصلت الولايات الأكثر ثراءً مثل الخرطوم والجزيرة وولايتى نهر النيل والشمالية على حصة أعلى مقارنةً بولايات دارفور والنيل الأزرق والشرق والتى تعتبر الأكثر فقراً وتضرراً بالنزاعات، والتي بلغ حجم سكانها مجتمعة حوالي 30%، إلا أنها تلقت 18% فقط من إجمالي التحويلات. وبنفس القدر من الأهمية، تسلط الورقة الضوء على الظل الإدارى الثقيل المترتب على هذه الولايات الثمانى عشر وأكثر من 500 محلية تابعة لها، مما أدى إلى خلق بيروقراطية ضخمة استنزفت الموارد دون تقديم الخدمات الأساسية. يوضح المؤلفان فى هذا السياق بأن الحكومات المحلية خصصت نصيب الأسد من موازاناتها للأجور والمصروفات الجارية، تاركة ما تبقى من موارد ضئيلة للاستثمار الرأسمالي وتقديم الخدمات. كانت النتيجة دولة فارغة، مقيدة مالياً ولكنها ثقيلة الظل إدارياً، غير قادرة على تلبية توقعات المواطنين في الحصول على المياه النظيفة والكهرباء والتعليم والأمن – والتى تشكل مرتكزات الشرعية على المستوى الولائى والمحلي.
خاتمة:
تأسيساً على ما تقدم، نرى أنه يمكن تقديم حجة قوية بضرورة النظر فى إلغاء هذه الولايات والعودة إلى نظام الحكومات الإقليمية الست الأصلية – دارفور وكردفان وشرق السودان والخرطوم والنيل الأزرق وشمال السودان- أو مع بعض التعديلات مثل تقسيم الأقليم الأوسط إلى إقليمين، مع ترشيق المحليات وحصرها على المدن الكبرى وأريافها في كافة الأقاليم. هذه الأقاليم الأكبر حجماً والمتكاملة اقتصادياً ستتوفر على فرص أفضل لبناء حيز مالى واسع وحشد قواعد إيرادات أكبر وكذلك سيقل الظل الإدارى والمصروفات الجارية المترتبة عليه، مما يسمح بتخصيص الموارد فى مستويات الحكم كافة – الاتحادية والأقليمية والمحلية – نحو الاستثمار الإنتاجي في الزراعة والبنية التحتية والتنمية البشرية. أيضاً فإن نموذج الأقاليم سيعالج أو يخفف من أزمات النزاعات الإثنية والقبلية لأن النخب القبلية والزعامات المحلية ستكون فى حاجة لبناء تحالفات عابرة للقبائل والكيانات الإثنية كما كان الحال قبل التقسيم الولائى الإثنى الذى إبتدعه نظام الانقاذ البائد.
أما على صعيد الفيدرالية المالية التى ستواكب نظام الأقاليم والمحليات حول المدن الكبرى، فيجب أن تبنى على نظام شفاف ومنصف للتحويلات المالية الرأسية من المركز للأقاليم وكذلك الأفقية من الأقاليم للمحليات. إن تحسين مواءمة مرجعية التحويلات مع مؤشرات التنمية البشرية من شأنه تحسين الرفاه الاجتماعي وتعزيز شرعية الدولة. بعبارة أخرى، يجب أن يضفي النظام الفيدرالي الجديد الطابع المؤسسي على العدالة المالية، بحيث يضمن حصول المناطق المتخلفة على موارد تتناسب مع احتياجاتها وفجواتها التنموية. عندئذ فقط يمكن أن تصبح الفيدرالية المالية أداة لبناء الأمة بدلاً من بؤرة للاستقطاب والنزاعات والزبائنية السياسية. إذن، يتطلب إعادة بناء النظام الفيدرالي في السودان الانتقال من “لفيدرالية الزبائنية” إلى “الفيدرالية التنموية” المنتجة. فقد أدى الأول إلى تفتيت الدولة وإشعال النزاعات؛ أما الثاني فسيوجه القدرات المالية والكفاءة الإدارية نحو مراكز النمو الإقليمية – المدن المنتجة والاقتصادات الريفية المحيطة بها – التي يمكن أن ترسخ التحول الهيكلي الذي طال انتظاره في السودان.
عليه، إذا تم التوافق على ثلاث مستويات للحكم: اتحادية، إقليمية ومحلية حول المدن الكبرى، نحاجج بأن هذا النظام الفيدرالي المقترح سيكون رافعاً هاماً لمشروع اقتصادي نهضوي يستند الى المدن المنتجة ومحاور النمو حولها لإحداث تحولاً هيكلياً في القطاع الزراعي السوداني الغني والمتنوع، والذي كان ولا يزال الركيزة الأساسية للاقتصاد السوداني.
سنفرد فى مقالات قادمة، بإذن الله، لموضوع التحول الهيكلى فى القطاع الزراعى فى إطار “مشروع المدن المنتجة ومحاور النمو” الذى كان موضوع أحد التقارير الهامة التى أنجزها فريق بحثى من الخبراء السودانيين لمشروع منتدى البحوث الاقتصادية لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط (https://erf.org.eg/) عن قضايا التنمية فى السودان.
——————————————–
aljazeera.net/politics/longform/2022/8/25/نزاعات-قبائل-السودان-ماذا-يغذيها-وما (1)
(2) أنظر ورقة سياسات منتدى البحوث الاقتصادية (ندى عيسى وحامد التيجانى، 2022) عن “إعادة بناء الفيدرالية المالية العامة للدولة في السودان”: file:///C:/Users/Dr.Ibrahim/Downloads/1669457544_485_1514656_1596%20(2).pdf