التغريبة الغزية… انتظار للتهجير الثامن في 10 أشهر

يستهدف جيش الاحتلال المدنيين في قطاع غزة عبر إجبارهم على النزوح المتكرر في نمط متشابه تكرر 7 مرات وأسفر عن تفاقم الأمراض النفسية التي يحظر دخول أدويتها ما أدى إلى اضطرابات كثيرة جراء الصدمات المتوالية.

دخلت الثلاثينية الغزية دعاء صالح، في حالة اكتئاب نفسي حادة بدأت بصعوبة في النوم، وفقدان للشهية، وتفاقمت حتى وصلت إلى رغبة في التخلص من حياتها، بعدما عاشت معاناة النزوح أربع مرات منذ بداية العدوان الإسرائيلي، إلى أن استقرت مؤخراً في مخيم بمنطقة مواصي خانيونس جنوبي القطاع، كما يقول شقيقها محمود.

قبل الحرب عاشت دعاء حياة مرفهة في منزلها بمدينة غزة، وفجأة أُجبرت على النزوح نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفي تغريبتها الأولى أقامت أسبوعاً في بيت أقاربها داخل المدينة، قبل أن تجبر وعائلتها على النزوح الثاني باتجاه محافظة خانيونس، وهناك أقاموا شهرين ونصفا في منزل قريب لهم، وفي المرة الثالثة اتجهوا إلى رفح، بعد بدء جيش الاحتلال عملية برية على خانيونس.

اتسم النزوح الثالث بشعور دعاء بالاستقرار نوعاً ما، كما تصفه، والسبب اعتياد حياة الخيمة التي استمرت خمسة أشهر في منطقة “الطيارة” برفح، لكنها أُجبرت على النزوح للمرة الرابعة باتجاه مواصي خانيونس، ولم يكن أمامهم سوى خيمة بمنطقة قاحلة، وسط الحر الشديد وشح المياه، ووقتها بلغت المعاناة ذروتها، خاصة بعد وقوع مجزرة مروعة في منطقة مجاورة في الثالث عشر من يوليو/تموز الماضي، راح ضحيتها 91 شهيداً، و400 جريح من النازحين، وبسبب مشاهدة الضحايا، انهارت ودخلت في اكتئاب حاد، دفع شقيقها إلى البحث عن طبيب نفسي لإنقاذها خوفاً مما “قد يحدث لا قدر الله”، كما يقول.

ماذا يجري بعد 7 مرات من التهجير؟

يعاني مليونا غزي مرارات تجربة النزوح القاسية، والتي تتسم بغياب الفروق في المعاناة أو درجة الأمان النسبي بين من يقيمون في المدارس والخيام، وحتى في الشوارع، فالجميع يعانون ومهددون بالقتل على يد جيش الاحتلال، كما يقول المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في القطاع إسماعيل الثوابتة، مضيفاً أن بعض العائلات نزحت سبع مرات، والسبب الضغط على المدنيين نفسياً ومادياً وجسدياً، وهو ما يبدو في حجم الأزمات والمشاكل التي يعانيها الناس، بل وحتى انخفاض أوزانهم بصورة ملحوظة، جراء المجاعة ومعاناة حياة التنقل وعدم الاستقرار.

%60 من المهجرين يعانون مشاكل واضطرابات نفسية وسلوكية

و”يعد النزوح من أقسى وأصعب التجارب الإنسانية، خاصة إذا ما تكرر في أوقات قصيرة ومتلاحقة، ويمكن تشبيهه بخروج الروح من الجسد، إذ يؤدي إلى تدهور الحالة النفسية واضطرابات كبيرة”، كما يقول الطبيب والمعالج النفسي يوسف عوض الله، مدير عيادة رفح النفسية، والذي يعيش كذلك تجربة النزوح ويقطن في خيمة منذ أوائل شهر مايو/أيار الماضي.

ويعاني 60% ممن أُجبروا على النزوح، مشاكل واضطرابات نفسية وسلوكية بدرجات متفاوتة الشدة، في ظل تقليص عدد العيادات النفسية إلى 2 فقط من أصل 8، كانت تعمل في القطاع قبل الحرب، وخروج مستشفى الطب النفسي الوحيد في القطاع عن الخدمة تماماً، بحسب ما رصده عوض الله، ويتفق معه الدكتور أمجد جمعة، الأستاذ المشارك والمتخصص في علم الاجتماع بجامعة الشرقية في سلطنة عمان، إذ لاحظ الأمر في محيطه مؤكدا على أن تجربة النزوح المستمرة منذ 10 أشهر تعد من الخبرات المؤلمة والصادمة والمفاجئة، والتي تهدد السلامة الجسدية والنفسية للأفراد.

معاناة الفئات الهشة

ما دامت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية مستمرة، فمن المؤكد أن صنوف المعاناة الناتجة عنها تنعكس على الحالة النفسية للنازحين، وأكثر المتأثرين هم الأطفال، والنساء، وكبار السن، والمرضى، وجميعهم يندرجون ضمن “الفئات الهشة”، بسبب ضعفهم وعدم قدرتهم على مواجهة مصاعب حياة النزوح، كما يقول جمعة، مؤكداً على وقوع تغيرات سلوكية وعاطفية، وانفعالية، وعصبية، وفسيولوجية، واجتماعية يعاني آثارها كافة فئات المجتمع، ويقسمها إلى قريبة المدى بمعنى أن تكون ردود الفعل فورية وسريعة كالشعور بالغثيان، والإغماء، وفقدان الوعي، أو أعراض فسيولوجية كارتفاع ضغط الدم وسرعة ضربات القلب واحمرار الوجه والبكاء والصراخ والإحساس بالعجز أو التبلد الانفعالي أحياناً، والأحلام المزعجة والكوابيس وغير ذلك، أو أن تكون ردود الفعل بعيدة المدى، وهي التي تظهر بعد مرور فترة زمنية معينة على تجربة النزوح الصادمة ومنها تجنب المواجهة والانطواء واستعادة الحدث الصادم.

%70 نسبة النقص في أدوية الأمراض النفسية بقطاع غزة

ويمكن تفسير أوامر جيش الاحتلال من منظور نفسي، إذ عمل على أن يشمل النزوح جميع سكان القطاع، وألا يقتصر على مرة أو مرتين، وفق نمط متكرر بشكل متقارب، كما يوضح عوض الله، والذي يؤكد أن أثر السلوك المدروس والمخطط خلف كوارث ستزيد بعد الحرب ضمن ما يسمى “اضطرابات ما بعد الصدمة”، التي ستظهر على شكل مزيد من الأمراض النفسية.

ويؤكد الثوابتة أن أكبر ظهور للأزمات النفسية وتفاقم المعاناة الإنسانية كان بعد تهجير نحو مليون نسمة من رفح، وهي أكبر عملية نزوح داخلية يسببها الاحتلال منذ بدء العدوان، إذ انتقل الأهالي إلى معسكرات عشوائية، وأقاموا في خيام بالية، في ظل وضع إنساني متردٍّ، بسبب النقص الحاد في المياه، والطعام، والأزمة الصحية، مشيراً إلى تسجيل الدوائر الحكومية إصابة 1.7 مليون نازح بأمراض معدية، بينما أكد المفوض العام لوكالة الغوث الدولية “أونروا”، فيليب لازاريني، أن ربع مليون شخص في محافظة خانيونس وحدها عانوا من تجربة النزوح للمرة السادسة أو السابعة، ولا يوجد مكان يمكنهم التوجه إليه، خاصة في ظل حياة الخوف والرعب جراء تكرار استهداف المخيمات، وانتشار الأفاعي والعقارب بينها.

وبسبب تلك الظروف لاحظ الدكتور عوض الله، ما يصفه بـ”الظاهرة الغريبة”، إذ يرغب نازحون في العودة إلى بيوتهم حتى لو كانت مدمرة، وقالوا بأنهم يريدون وضع خيمة فوق أنقاضها، وإذا ما فعلوا سيشعرون بالراحة أكثر من بقائهم في مناطق بعيدة ونائية، ما يؤكد الحاجة الكبيرة للاستقرار وإنهاء معاناة التغريبة الغزية التي لا تنتهي بسبب جرائم جيش الاحتلال.

انتشار واسع للأمراض النفسية

يعمل الدكتور عوض الله حالياً في عيادة صغيرة داخل مستشفى ناصر بمحافظة خانيونس جنوبي القطاع، ويستقبل يومياً عدداً كبيراً من النازحين ممن يعانون موجات اكتئاب، وفقدان الرغبة في الحياة، وصعوبة النوم، وفقدان الشهية للطعام، وحزناً وانعزالاً، وتطورت الأعراض لدى 15% من المصابين ممن دخلوا في مراحل أكثر خطورة، وباتوا يعانون أعراض الفصام العقلي، ومستويات عالية جداً من الاكتئاب.

لكن العلاجات المطلوبة في مثل تلك الحالات غير متوفرة، لذا يطلب عوض الله من ذويهم البحث في الصيدليات الخاصة علهم يجدون بعض الأنواع المفقودة، إضافة لإرشادات يقدمها إليهم حول كيفية التعامل مع المرضى، وهو أقصى ما يستطيع الأطباء فعله في مثل هذه الظروف، وحتى الأدوية المُهدئة والمساعدة على النوم أصبحت مقطوعة بفعل الحصار، كما يقول الثلاثيني يوسف عودة، مضيفاً: “نزحنا ست مرات، وأقمنا في خيام بالية، وعشنا مجاعة، ونجونا من الموت مرتين، وكل هذه الضغوط لم تستطع والدتي البالغة من العمر 70 عاماً احتمالها وبدأت تعاني أعراض تدهور حاد في صحتها النفسية، وبكاء هستيري مستمر، وعدم النوم”.

وتقيم أسرة عودة في خيمة صغيرة مكونة من قطع قماش ونايلون، بلغت الحرارة وسطها عند منتصف النهار 44 درجة مئوية، ولم تنجح كل محاولات تهدئة والدته، التي تُصر على العودة إلى منزلها شمالي القطاع، رغم تدميره، كما أنها غير مقتنعة باستحالة الأمر بسبب قطع الاحتلال الطريق، وقتله كل من يحاول الاقتراب من شارع الرشيد أو محيط وادي غزة، وللأسف حاولت والدة عودة الانتحار وجرحت يدها في محاولة لقطع الشريان الرئيسي، لكنه تمكن من إنقاذها.

قائمة الأدوية النفسية المحظورة

يقر الطبيب عوض الله بصعوبات كبيرة تواجههم من أجل علاج الحالات المتفاقمة بسبب منع الاحتلال الأدوية النفسية من دخول غزة، إذ ارتفع النقص في هذا النوع من الأدوية إلى أكثر من 70%، وهناك أنواع حظر الاحتلال دخولها للقطاع كلياً، مثل علاج أمراض الفصام النفسي، وتسهم هذه الأدوية في تهدئة المرضى، والحد من خطرهم على المجتمع، منها على سبيل المثال دواء “ليبونيكس/Leponex”، ودواء “أولان زابين/Olanzapine- حقن طويلة الأمد مضادة للذهان”، والأكثر خطورة وقوع تدهور كبير لمرضى نفسيين، كانت حالتهم مستقرة، لكن بعد تجربة النزوح القاسية انتكس وضع 70% من مرضى الاكتئاب والفصام النفسي وتدهورت حالاتهم.

وشكل خروج عدد كبير من المرضى النفسيين ذوي الحالات المعقدة والخطيرة من المشافي، خاصة من كانوا يعانون أمراضاً تحتاج إلى علاجات مستمرة للسيطرة على حالاتهم مثل “اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع”، في وقوع الجرائم وتهديد الأمن والسلم المجتمعي كما يقول عوض الله، وهو ما تعاني منه أسرة الغزي عبد الله، والتي رفضت ذكر الاسم كاملاً، إذ خرج في بداية العدوان، وصار يتسبب في مشاكل واعتداءات متكررة على المواطنين، ونفذ أكثر من عملية سطو، وبعد ضغط العائلة، خرج من المنزل ولا يعرفون عنه شيئا، وفق ما أكده شقيقه محمود.

هاجس النزوح لا يفارق الأذهان

يعيش يوسف حمد خوفاً شديداً، لأنه لا يعرف كيف ومتى سينزح من جديد، حتى أنه صار دائم النظر إلى السماء، خشية أن تُسقط طائرات الاحتلال منشورات جديدة فيها صورا لخرائط أو أوامر إخلاء ونزوح جديدة، كما حدث معه خمس مرات في السابق.

ولا يوجد أي بعد أو هدف عسكري لتكرار إجبار الفلسطينيين على النزوح من منطقة لأخرى، والأمر لا يعدو كونه سلوكاً سادياً يمارسه الجيش الإسرائيلي وقيادته السياسية، وفق ما يؤكده الخبير العسكري واللواء المتقاعد يوسف الشرقاوي، محدداً هدفين لما يقوم به الاحتلال، الأول ممارسة الضغط على الغزيين، وجعلهم يدفعون ثمن ما حدث في السابع من أكتوبر، والثاني رسالة موجهة إلى الرأي العام الإسرائيلي بأن إسرائيل مُسيطرة تماماً على قطاع غزة، وتستطيع بسهولة تحريك سكانه مثل حجارة الشطرنج، وهو ما يتنافى مع ما يحدث فعلياً على الأرض إذ تجري إهانة الجيش الإسرائيلي من المقاومين في جميع مناطق القطاع.

باختصار لم يعد مصطلح النزوح كافيا للتعبير عن ما يمر به الغزيون ويمكن وصفه بأنه “عقيم للغاية وغير منصف”، فالجميع تقريبا في غزة أجبروا على الفرار مراراً، ويسيرون على الأقدام في الغالب، وبعضهم لا يستطيع أن يحمل إلا أطفاله، وكثيرون فقدوا كل شيء وهم في احتياج إلى كل شيء، كما أنهم يعانون درجات عالية من الإحباط، وفق ما أكده سكوت أندرسون، مدير شؤون الأونروا في غزة ونائب منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، في تصريح صحافي.

غزة ـ محمد الجمل ـ العربي الجديد