وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. “الشرعية الاقتصادية”: ما هي؟ ولماذا الحاجة إليها؟

المقال الثاني..

“الشرعية الاقتصادية”: ما هى ولماذا الحاجة إليها من أجل مخاطبة جذور أزمة المشروع الوطنى السودانى؟

مقدمة:

في حين أن معظم الأدبيات حول شرعية الدولة تركز على الشرعية السياسية، ديمقراطية كانت أو شمولية – الحق في الحكم المستمد من التفويض الانتخابى أو الأيديولوجية أو الهوية الاجتماعية – هناك بعداً آخراً للشرعية يرتكز على الأداء الاقتصادي لمخاطبة جذور وتحديات التخلف والنزاعات، إلا أن هذا الإستحقاق الوطنى الهام ظل مهمل نسبياً فى الحوارات الوطنية السودانية. فى عدد من مساهماتى الأكاديمية وأيضاً بعض مقالاتى العامة صكيت تعبير “الشرعية الاقتصادية” كمفهوم تقريبى للمقبولية الشعبية التى يمكن أن تكتسبها النخب الحاكمة عندما تتمكن من تحقيق تحول اقتصادي مستدام، واسع النطاق يؤدى إلى تغيير حياة الشعوب بصورة جذرية إلى الأفضل – مثل تحقيق معدلات نمو سريع، عريض القاعدة يؤدى إلى خفض نسبة الفقر وتوفير خدمات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية وغيرها من المصالح (السلع) العامة. إلا أن إنجاز هكذا تحولات اقتصادية كبرى لتحديث الاقتصادات المتخلفة وبناء طبقة وسطى وازنة لتثبيت واستدامة الأنظمة الديموقراطية في البلدان النامية ليست فقط نتاج لبرامج اقتصادية فعالة على المستوى التقني ولكنها في المقام الأول محصلة لقرار سياسي من النخب الحاكمة باعتماد “الشرعية الاقتصادية” كاستراتيجية ومبرر لبقاء النظام السياسي.

أولاً، تعريف الشرعية الاقتصادية(1):

للمزيد من الضبط المفاهيمى ومن أجل إستخلاص منهج برامجى وبناء أدوات لترجمة هذا المفهوم إلى أدوات تنفيذية واضحة المعالم، يمكن تعريف الشرعية الاقتصادية بأنها حالة من السلطة السياسية تتسم بثلاث سمات تميز هذا المفهوم:

شرعية الأداء: تسعى النخبة الحاكمة للحصول على المقبولية لمشروع وصولها للسلطة والحفاظ عليها عن طريق سردية وطنية تستند إلى أداء هذه النخبة من حيث إحراز تقدم ملموس في الرفاهية الاجتماعية والإنتاجية والتحول الهيكلي.

البراغماتية التكيفية: لا تستمد النخب شرعيتها من نقاء أيديولوجيتها، بل من فعالية سياساتها – مما يعنى أن هذه النخب تكون مستعدة لمراجعة بعض الثوابت الأيديولوجية إذا كانت تتعارض مع تبنى المؤسسات القمينة بتحقيق الأهداف التنموية الاستراتيجية.

التعاقد التبادلى: يمنح المواطنون الشرعية المستمرة مقابل تحسين المعيشة المادية والالتزام التنموي الموثوق به، مما يشكل عقداً اجتماعياً اقتصادياً فعلياً.

ثانياً، الشرعية الاقتصادية والشرعية السياسية: تكامل أم إحلال

كما أشرنا أعلاه، بينما تنشأ الشرعية السياسية من المقبولية الديمقراطية أو الاعتقاد المعياري في شرعية الحكم، فإن الشرعية الاقتصادية تنشأ من الأداء التجريبي. في الأنظمة الشمولية أو الهجينة، غالباً ما تحل الشرعية الاقتصادية محل الشرعية السياسية (على سبيل المثال، الصين وإثيوبيا ورواندا)، بينما في الأنظمة الديمقراطية، يتكامل مفهومى الشرعية السياسية والاقتصادية ويعززان بعضهما البعض من خلال تعزيز ثقة الجمهور ومصداقية السياسات.

فبحسب طبيعة النظام يتغير مصدر الشرعية وكذلك المخاطر الوجودية التى تواجه النظام المعنى. ففى حالة نظم “الشمولية التنموية” تستند الشرعية السياسية إلى الأيديولوجية أو العصبية الهوياتية الدينية أو الأثنية كبديل لشرعية المقبولية الشعبية الانتخابية، بينما تتمثل روافع الشرعية الاقتصادية لهذه الأنظمة فى النمو المستدام وإرتفاع مستويات المعيشة، مما يعنى أن تباطوء النمو وتراجع أوضاع الاقتصاد سيؤدى إلى فقدان الشرعية فى هذه الحالة. بالمقابل، الإنجاز الاقتصادى يساهم فى تعزيز التفويض الشعبى الانتخابى فى حالة الأنظمة الديمقراطية، بينما يؤدى الفشل التنموى إلى تآكل مصداقية هذه الأنظمة.

ثالثاً، لماذا “الشرعية الاقتصادية” لإنجاز الانتقال المدنى السلمى الديمقراطى المستدام

فى سياق مصفوفة الأهداف الاستراتيجية الأولى لمشروع إنهاء الحرب والانتقال المدنى الديمقراطى، ركزت بالتفصيل فى مقالات سابقة على محورين أساسين: الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية، باعتبارهما ركيزتين متلازمتين لأي انتقال ناجح، خاصة لجهة إنهاء عسكرة السياسة والاقتصاد وبالتالى تعديل موازين القوى لصالح المجتمع المدنى الديمقراطى وتصفية تسيد النخبة العسكرية المليشياوية على مقدرات وأقدار البلاد فى ظل هذه الحرب. إلا أن مشروع البناء الوطنى سوف لن يكون مكتملاً من دون التوفر على برامج وأدوات لتعزيز قدرة المجتمع (أى القوى المدنية الديمقراطية) فى معالجة الثلاثية المدمرة التى تسببت فى انتكاسة الانتقالات الديمقراطية السودانية المتمثلة: (أ) فى الاستقطاب السياسى؛ (ب) عدم التوافق على رؤية وبرنامج اقتصادى لمعالجة التركة الاقتصادية للأنظمة الشمولية المتطاولة وتحقيق تحولات تنموية جذرية لمخاطبة جذور التخلف والنزاعات؛ (ت) وضعف مؤسسات التحكيم الرسمية والمجتمعية لمعالجة صراع الرؤى وتضارب المصالح. إلى جانب مشروعى الإصلاح الأمنى وإعادة بناء القوات النظامية من جهة وبناء المنظومة العدلية من جهة أخرى، أشرت فى مقالى السابق (نحو “عقد اجتماعى” متين للميثاق الوطنى المنشود) إلى أن معالجة هذه “الثلاثية المدمرة” يستدعى تضمين خمس قضايا محورية فى “العقد الاجتماعى” للميثاق الوطنى – الذى،برأى المتواضع، قد أصبح ضرورة وطنية مُلِحَّة يتوجب التوافق عليه وإعلانه من قبل القوى المدنية الديمقراطية من دون تردد أو تأخير.

“الشرعية الاقتصادية” التى عالجناها فى هذا المقال هى أول وأهم هذه القضايا الخمسة. فالسودان كدولة ومجتمع إذا قُدِّر لهما الخروج من هذه الحرب الماحقة (قريباً بإذن الله) سيمران بمرحلة فى غاية الخطورة ذات أبعاد وجودية، مما يستدعى بناء الشرعية الاقتصادية لتعزيز الشرعية السياسية الثورية التوافقية فى مرحلة الانتقال وكذلك الشرعية الانتخابية اللاحقة. معالجة آثار الحرب الاقتصادية وتبعاتها الجسيمة تتطلب التوافق على برامج سريعة وفعالة لإعادة الإعمار والتوطين وتقديم الخدمات …إلخ. إلا أن السلام المستدام وتثبيت الانتقال المدنى الديمقراطى يستدعى الشروع فى وضع البلاد فى طريق تحقيق “المعجزة التنموية” خلال الثلاثة عقود القادمة، الأمر الذى يتطلب عقد إجتماعى مزدوج (سياسى-اقتصادى) “ملزم” للطبقة السياسية.

بحسب عدة تقديرات متواترة، فقد الاقتصاد السوداني ما بين 40 إلى 50% من ناتجه المحلي نتيجة حرب الخامس عشر من أبريل غير المسبوقة من حيث حجم الدمار الذى ألحقته بالبشر والحجر، إذ دارت في قلب مراكز الثقل الاقتصادى والسكانى فى العاصمة وكبريات المدن. هذه الحرب شبيهة بالحرب الأهلية السورية التى تسببت فى إنهيار الاقتصاد السورى بنسبة 75% بين عامى 2010 و 2016. بالاستناد إلى تجارب عدة دول خرجت من الحروب الأهلية مثل رواندا، فيتنام، كمبوديا، إثيوبيا وموزمبيق، فإن أسرع معدلات نمو حققتها هذه الدول تراوحت بين 7 و10%. عليه، بحسب أكثر التقديرات تفاؤلاً سيحتاج السودان إلى ما بين سبعة إلى عشر سنوات لكى يعود الاقتصاد السوداني إلى مستوى 2022، البالغ حوالى 50 مليار دولاراً(2) . لا شك أن حجم الكارثة المترتبة على هذه الحرب كبير وكبير جداً ولابد من التعامل معه بمسئولية بتبنى مشروع وطني نهضوي مسنود بالمعرفة وتجارب الأمم الناجحة ومفارقة “الأبقار الأيدولوجية المقدسة” وغيرها من العنتريات “الدونكشوتية” فراقاً بيناً لصالح الوطن وشعبه المكلوم. فبالرغم من الدمار الماحق لهذه الحرب، إذا توفرت شرعية اقتصادية وتحالف تنموي واسع بين النخب أمكن معه استدامة نمو اللحاق أعلاه (بمعدل 7 إلى 10% سنوياً) يمكن مضاعفة حجم الناتج المحلى ثماني مرات (من 30 إلى 240 مليار دولار) خلال 20 إلى 30 عاماً. عندها سيصبح للسودان وأهله شأن آخر من السلام والعزة والرفعة التى يستحقونها.

بإذن الله، سنعرض فى المقال القادم للعبر والدروس المستفادة لسودان ما بعد الحرب من تجربتى الصين وأثيوبيا وبعض الدول الأخرى ذات العلاقة بمفهوم الشرعية الاقتصادية ثم نستتبع ذلك بمقالات عن المرتكزات الأربع المتبقية من مشروع العقد الاجتماعى المقترح.

أنظر المراجع التالية التى تتحدث عن أطروحات تتقاطع مع مفهوم “الشرعية الاقتصادية”:

ماكس ويبر. 1922. الاقتصاد والمجتمع. مطبعة جامعة كاليفورنيا.

سيمور. ليبسيت. 1959. “بعض المتطلبات الاجتماعية للديمقراطية: التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية”، مجلة العلوم السياسية الأمريكية: 53(1)، 69–105.

دارون أسيموغلو وجيم وروبنسون.2019. الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية. بنجوين برس.

ستيفان ديركون. 2022. المراهنة على التنمية: لماذا تفوز بعض البلدان وتخسر أخرى. هيرست وأكسفورد يونيفرسيتي برس.

دانى رودريك.2008. “المؤسسات الثانية الأفضل”. المجلة الأمريكية للاقتصاد، 98(2)، 100–104.

(2) قانون ال 70 يحدد عدد السنوات المطلوبة ليتضاعف عدد ما (حجم الناتج محلى، طول الطفل الصغير، رصيد حساب التوفير …إلخ.) وذلك بقسمة 70 على معدل نمو ذلك العدد السنوى (أنظر هذا الرابط: Rule of 70 للمزيد من التفصيل).

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.