خطاب الكراهية في حرب السودان

زوايا

حمّور زيادة

تعلّم العالم بالطريقة الصعبة أنّ خطاب الكراهية يمكن أن يكون مُقدّمةً لجرائمَ فظيعةٍ. في عديد من الجرائم الجماعية التي شهدها العالم في آخر سنواته، ظهر خطابُ الكراهية باعتباره مقدّمةً لجرائمَ غيرَ مُعتادةٍ، بما في ذلك الإبادة الجماعية. واقترن هذا الخطاب عادةً بالتضليل والوصم والتمييز والعنف اللفظي ضدّ مجموعات من السكّان.

لعلّ أشهر النماذج تاريخياً هو “الهولوكوست” الذي ارتكبه النازي. وهو ما لم يبدأ بغُرَف الغاز، إنّما بخطاب الكراهية ضدّ الأقلّية. اعتمد النظام النازي قوانينَ لسحق وسائل الإعلام المستقلّة في ألمانيا، واستبدل بها وسائل الإعلام الإذاعية والمطبوعة، التي تسيطر عليها الدولة، التي نشرت خطابَ الكراهية والصورَ النمطيةَ المعاديةَ للساميّةِ. أسهمت هذه الحملات الإعلامية بشكل كبير في تطبيع المجتمع الألماني مع جرائمَ فظيعةٍ لاحقةٍ. راح ضحية الاضطهاد والإبادة المُخطَّط لها، والممنهجة، نحو ستة ملايين طفل وامرأة ورجل يهودي، وما لا يقلّ عن نصف مليون من الغجر. ارتكب النظام النازي جرائمَ ضدّ الأشخاص ذوي الإعاقة، والألمان من أصل أفريقي، ومثليي الجنس، والبولنديين، وأسرى الحرب السوفييت، والمعارضين السياسيين وغيرهم. هذا كلّه بدأ بخطاب تحريضي يحتقر كلَّ من لا يطابق تصوّر أدولف هتلر للجنس الآري.

مثلما حدث في رواندا عام 1994، عندما قاد خطاب الكراهية، الذي كان يُبثّ في الإذاعة، إلى تفاقم التوتّرات العرقية من خلال نشر الشائعات التي لا أساس لها من الصحّة وإهانة “التوتسي”، قاد التحريض إلى مقتل أكثر من مليون شخص في أقلّ من ثلاثة أشهر. لم يكن الضحايا من “التوتسي” فقط، ولكن أيضاً من “الهوتو” المعتدلين الذين عارضوا هذا الجنون.

في الحروب الأهلية لا يقبل أحدٌ بمن يقف ضدّ الحرب، بل في مرّات كانت الحرب الأهلية تستهدف دعاة السلام، مثلما حدث في كمبوديا في جرائم الإبادة الجماعية، التي ارتكبها الخمير الحمر في سبعينيات القرن الماضي. شنّت الجماعة المُتمرّدة حملةً دعائيةً مكثفةً لتعبئة أجزاء من السكّان الريفيين من أجل الاستيلاء على السلطة. وفي سبيل ذلك، وجّهت خطاب كراهية ممنهجا ضدّ المثقّفين الداعين للتعايش السلمي ووصفتهم بأعداء الشعب، باعتبارهم طليعةً لسكّان المدن أصحاب الامتيازات. قاد خطاب الخمير الحمر إلى قتل ما بين 1.5 مليون إلى مليوني كمبودي، من عام 1975 إلى 1979.

لم تختلف الحرب الأهلية السودانية الحالية عن مثيلاتها في تغيّراتها وجذبها أطرافاً جُدداً إلى محرقة الاقتتال، كما لم تختلف في تبنّي خطاب الكراهية ضدّ المجموعات المختلفة. وككلّ خطاب ممهّد للجرائم الجماعية، اعتمد خطاب الكراهية على المعلومات المُضلِّلة والكذب. فعبر سنوات سبقت الحرب استمرّ خطاب تحمّيل ذنب نكبات البلاد لأعراقَ ولأقاليمَ مختلفة، حتّى أصبح الوصم خطاباً معتاداً في سياسة اعتمدت على التوازن القبلي. ومع مرور السنوات، أصبحت فكرةُ فصل بعض أجزاء البلاد للتخلّص من سكّانها أمراً مطروحاً للنقاش العلني. وجاءت حرب 15 إبريل/ نيسان (2023) لتضع المتّهمين بعضهم قبالة بعض، بعد أن اشتعلت بصراع سلطوي بين جنرالَين لم يدم ربيع تحالفهما طويلاً. حرب السلطة في تحوّلها حرباً أهليةً تخلّت عن أهمّية صراع الجنرالَين لتستلف خطاباتٍ عرقيةً تتهّم قبائلَ بالإجرام، وأقاليمَ بسرقة السلطة والثروة. وفي خضمّ هذا الصراع يسقط الضحايا المدنيون، ويُستغَلُّ موتهم وقوداً لاستمرار الحرب، التي يظنّ أطرافها أنّ نهايتها ممكنة بالقضاء على الأطراف الأخرى فقط، أو إخضاعها إلى الأبد.

لم نتعلّم في السودان أنّ بدايات كوارثنا المشابهة لكوارث العالم تقود إلى ذات النتائج. فالركون إلى “اختلاف التجربة السودانية” جعل الحرب الأهلية القادمة علناً حدثاً مفاجئاً للملايين. وبعد شهور من اندلاعها ظلّ إنكار حجمها وأثرها مستمرّاً. وحتّى هذه اللحظة، رغم تطابق ما تمرّ به الدولة السودانية من حالٍ مع نماذج الحروب الأهلية في القارّة الأفريقية، إلّا أنّ أطراف حرب السودان يمنّون أنفسهم بنهاية مختلفة لا تمرّ عبر الإبادة الجماعية. وهي أمنية لا يبدو أنّها قابلةٌ للتحقّق. فما بدأته قوات الدعم السريع من تطهير عرقي في مدينة الجنينة لن يجعل توقّف خطاب الكراهية أمراً محتملاً.

“نقلا عن العربي الجديد”