د. أحمد خضر يكتب.. “إن سرقوا صورنا فلن يسرقوا ذاكرتنا”

أهداني صديقي وبرلومي د. هيثم الجيلي صورة لي من أيام الدراسة، وهي من القليل الذي تبقى بعد نهب مقتنياته. تلك اللحظة أعادتني إلى زمن البدايات؛ حين لم يكن هناك جنجويد ولا قوات مشتركة، وكان كيكل – ابن الثامنة – يلعب مع اقرانه“عسكر وحرامية” (وكان غالباً هو الحرامي!).

في ذلك الزمن، كانت الأخبار تصلنا عبر الهاتف أو الجوابات أو الصحف: قريبٌ، جارٌ، صديقٌ… “عريس شهيد”. ودائماً كان يراودني السؤال: ماذا لو عاد هؤلاء الشهداء ورأوا مآل الإنقاذ؟ هل ضحّى مئات الآلاف من الشباب كي تنتهي دولتهم إلى إمبراطوريات فساد وقطط سمان لا تشبع؟ هل أُريق الدم لكي تؤول مؤسسات الوطن إلى العسكر والأجهزة الأمنية؟

هل قضى الرعيل الأول من الإسلاميين لكي يمتلك “حارس بن لادن” الملازم عبدالباسط حمزة مشروعات تفوق مشروع الجزيرة، ويصبح من أكبر مليارديرات الشرق الأوسط؟ أو ليجمع علي كرتي عشرات العقارات والأراضي، وتقتني زوجة عراب الإنقاذ المزارع والعقارات والشهادات العلمية بالتمكين لا بالجدارة؟ حتى صار الفساد أوسع من أن يُحصى.

لكن يبقى السؤال: من سرق مقتنياتنا وصورنا؟ أيّاً كان الفاعل، فهو لم يدرك أن قيمتها تتجاوز الذهب والمال. ومع ذلك، كثيراً ما أستدرك: المجرمون أنفسهم ضحايا. فجنود الجنجويد – المتهم الأول – ضحايا مطامع آل دقلو في السلطة، وضحايا الإنقاذ التي استغلتهم ولم تُدرّبهم أو تُؤطّرهم. وسكان العشوائيات الذين اتُّهموا بالنهب، هم ضحايا دولة ظالمة غنية بطائفة فاسدة وفقيرة بالعدل. وحتى بعض صغار الجنود من المؤسسات النظامية ما هم إلا ضحايا لاحتكار الشركات العسكرية للثروة.

والحقيقة أن الحرب وانتهاك البيوت والأفراد – سواء بأيدي الدعم السريع أو بقايا النظام – نتيجة واحدة: صنيعة الإنقاذ ومآلاتها.

أتذكر أيام الصورة حين كنا نحاور رموزهم – قبل أن يصيروا وزراء وولاة مثل هارون والهجا وغيرهم – محذرين من أن الاستيلاء على السلطة باسم الدين، وإقصاء الآخرين، وتكفير الديمقراطية، ليس إلا طريقاً نحو الديكتاتورية. وكنا نواجه بالاتهام والتكفير.

مضت ثلاثة عقود، وأثبت السودانيون سقوط التجربة الإسلامية سقوطاً مدوياً، عبر ثورة شجاعة سلمية راقية، رفعت شعارات عفوية نقية: “حرية، سلام، وعدالة”. لكن الطائفة الفاسدة لم تسكت. وكان من أخطاء الثورة عدم تقدير حجم نفوذ “أوليغارشية الإنقاذ” التي تشكلت من كوادر الحركة الإسلامية: أكاديميين، إعلاميين، رجال أعمال، متنفذين في الدولة، وأعيان الإدارة الأهلية.

لذلك لم يكن انقلاب 25 أكتوبر 2021 مجرد انقلاب جنرالين، بل كان امتداداً لطائفة الإنقاذ البائدة.

إن سرقوا صورنا ومقتنياتنا، فلن يسرقوا ذاكرتنا. الذاكرة ما زالت تحبل بوعودهم في بواكير الإنقاذ، حين جاب أمين حسن عمر والكاروري وحسين خوجلي وأحمد هارون الجامعات يروّجون لـ”المشروع الحضاري” و”الإسلام هو الحل”، مسنودين بالمال والإعلام. يومها بدوا أقوياء بالديمقراطية، لكنهم وُهنوا بالعسكرية، والتهمتهم السلطة، فانشطروا إلى تنظيمات ومليشيات، تتصارع وتحرق الأخضر واليابس.

لكم صورتنا… ولنا ذاكرتنا.
ذاكرة تختزن درساً بليغاً: أن تجريب مصائر الشعوب في أيدي المغامرين لا يورث إلا الخراب.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.