الزاكي عبد الحميد يكتب.. “سرديات”
بينما كان رئيس وزراء بريطانيا الأسبق *هارولد ماكميلان* يقف خطيباً على المنصة؛ بتلك النبرة المتعالية قليلاً، والتي يغلب عليها ذلك السأم الارستقراطي، كان ينظر من حين لآخر؛ إلى رجل يجلس في أقصى يسار القاعة؛ وكأنه يتوجه بحديثه له شخصياً..رجل قصير القامة، ممتليء الجسم، ليس حسن الهندام، هيئته مثل هيئة رئيس عمال شحن في ميناء، رجلٌ لو خُيِّر ماكميلان، لما اختار ان يدعوه إلى العشاء في داره في لندن مع صهره دوق دفينشاير..إلا أن ذلك الرجل الذي يجلس متحفزا مثل دب رابض، هو نجم هذا المهرجان دون منازع: *نيكيتا خروتشوف*، أمين عام الحزب الشيوعي و *أقوى رجل*؛ في الاتحاد السوفيتي..
هذا الراحل المقيم عبقري الرواية العربية *الطيب صالح* يصف جلسة استثنائية للجمعية العمومية للأمم المتحدة اوفدته إليها *هيئة الاذاعة البريطانية* مندوبا عنها لتغطيتها في مطلع ستينيات القرن الماضي…
ما نقلته أحرف الطيب صالح من وصف لما يدور في قاعة الجمعية العمومية في ذلك اليوم، عرضته دور السينما حول العالم في فيلم بعنوان *ثلاثة عشر يوماً* Thirteen Days.. شاهدتُ الفيلم في مطلع الالفية في العاصمة العمانية مسقط..
الفيلم من بطولة نجم هوليود *كيفن كوستنر* Kevin Costner وانتاج بيتر أو. ألموند. يلعب كوستنر دور مساعد الرئيس الأمريكي *جون كينيدي* ويقوم الممثل الامريكي الكبير *ديلان بيكر* بدور وزير الدفاع الامريكي *روبرت ماكنمارا..*
يحكي الفيلم؛ من وجهة النظر الامريكية، حالة التوتر والقلق التي عاشتها الحكومة الامريكية والعالم اجمع، طوال *ثلاثة عشر يوما* خلال عام ١٩٦٣، بسبب تنفيذ مقترح تقدمت به المخابرات الامريكية لاسقاط نظام *كاسترو* في كوبا. يتدخل الرئيس الامريكي كينيدي ويدير مع معاونيه صراعاً سياسياً عنيفاً يحاولون فيه التحلي بالثبات اللازم للتعامل مع الخطر المحدق..يرفض كينيدي اقتراح الهجوم على كوبا تفادياً لاشعال حرب نووية بين القوتين الاعظم…
بداية التوتر كانت في مارس من عام ١٩٦١ حين اعطى الرئيس الامريكي *آزينهاور* الضوء الاخضر لتنفيذ مقترح من المخابرات الامريكية يهدف إلى دعم المعارضة الكوبية بالمال والسلاح والتدريب للآطاحة بنظام كاسترو الشيوعي الجديد في كوبا. تبلورت فكرة المقترح لما عرف حينها ب *غزو خليج الخنازير* Bay of Pigs Invasion في جنوبي كوبا، ثم التحرك تحت غطاء جوي امريكي من *غواتيمالا* الى *هافانا* واسقاط الحكومة. يبدو ان الامريكان رفعوا من سقف توقعاتهم من نجاح العملية نظرا لتجاربهم السابقة..غير ان انباء الخطة كانت قد تسربت الى *كاسترو* بواسطة عملائه السريين والمخابرات الروسية ففشلت العملية، بمجرد نزول المرتزقة والمعارضين الكوبيين في خليج الخنازير، اذ وجدوا انفسهم تحت نيران لا عهد لهم بها …كانت القوات الكوبية التي الحقت الهزيمة بامريكا في خليج الخنازير بقيادة *شي جيفارا* الذي كان مسؤولا عن تدريب الثوار والتخطيط للتصدي..
بعد فشل *غزو خليج الخنازير* استعانت *هافانا* بالسوفيت خشية ان تكرر واشنطن العملية..
استجابت موسكو بسرعة للطلب الكوبي وقامت سرا بنشر صواريخ تحمل رؤوسا نووية كلها موجهة نحو ولاية فلوريدا الامريكية التي لا تبعد عن تخوم كوبا الجنوبية كثيرا.
وحين اكتشفت المخابرات الامريكية امر الصواريخ الكوبية استنفرت الحكومة قواتها العسكرية والنووية واضحى العالم من اقصاه إلى أقصاه يتارجح على شفير حرب نووية لا قبل له بها..
وهنا ظهرت فكرة الفيلم الذي نقل للعالم ما كان يدور في كواليس الأروقة الديبلوماسية والسياسية والعسكرية طوال *ثلاثة عشر يوما* عاشها العالم في رعب حقيقي.
ونقلت لقطة من لقطات الفيلم، المشهد الذي وصفه الراحل المقيم الطيب صالح في تقريره لهيئة الاذاعة البريطانية، وهو المشهد الذي كان ماكميلان ينظر فيه بتعالٍ الى *خروتشوف….*
والجلسة التي غطاها *الطيب صالح* سبقتها جلسة اكثر اثارة حين خلع الرئيس السوفيتي *خروتشوف* حذاءه وكاد ان يقذفه على وجه الموفد الفليبيني الذي هاجم التمدد السوفيتي في اوروبا الشرقية ما جعل خروتشوف يخبط على الطاولة التي امامه بحذائه تعبيرا عن اعتراضه على كلمة رئيس الوفد الفليبيني… هذه الحادثة تناقلتها اجهزة الاعلام العالمية بعنوان The Shoe Brandishing Incident..
وقالت صحيفة نيويورك تايمز إن خرتشوف حين شعر بالحرج الذي سببته حادثة الحذاء لرئيس تلك الجلسة-وهو السفير الآيرلندي لدى الأمم المتحدة-فردريك بولاند Fredrick Boland ارسل ديبلوماسيا روسيا اسمه زورين Zorin إلى مقر الوفد الآيرلندي ومعه زجاجة من النبيذ الروسي الفاخر ليسلمها للسفير الآيرلندي كاعتذار منه عن (عدم تمكنه من وداع السفير قبل مغادرته)..السفير الآيرلندي أكد هذه الجزيئية في مذكراته..
وفي مذكراتها التي صدرت مؤخراً؛ قالت نينا خرتشوف؛ حفيدة الرئيس الروسي الأسبق، من مقر اقامتها في نيويورك؛ إن جدها لم يخلع حذاءه ولم يقذف به الموفد الفليبيني كما ادعت أجهزة الإعلام الغربية وإنما خبط على الطاولة التي أمامه بقبضة يده واصفا الموفد الفليبيني ب “خادم الامبريالية” imperialist lackey..
هذا وتحتفظ اضابير الامم المتحدة بمواقف لرؤساء دول تثير الضحك..
من هذه المواقف موقف الرئيس الامريكي الاسبق *جورج دبليو بوش* حين كتب بقلم الرصاص عبارة يلفت بها نظر وزيرة خارجيته *كونداليسا رايس*.. لم يكن الرئيس بوش قد حضر جلسة للجمعية العمومية من قبل بعكس كونداليسا التي كانت مندوبة لبلادها قبل تعيينها وزيرة للخارجية..لذلك كتب بوش يستفسر منها قائلا:
I think I may need a bathroom break! Is that possible?
اي: إنني بحاجة للذهاب الى الحمام هل يسمح بذلك؟
لا احد يدري كيف اجابت *كونداليسا* على هذه العبارة التي كانت عدسات الكميرات قد التقطتها-من فوق طاولتها- دون ان تدري هي ولا يدري رئيسها!
وهناك الازمة التي نشبت بسبب مطالبة الرئيس الليبي السابق *القذافي* الذي حضر الجمعية العمومية لاول مرة في سبتمبر ١٩٦٩. طالب القذافي باقامة خيمة بدوية في محل اقامته في نيويورك الا ان طلبه قوبل بالرفض الامر الذي كاد ان يشعل ازمة سياسية لم تشهدها اروقة الأمم المتحدة من قبل، لولا تدخل احد كبار أباطرة تجارة العقارات في ذلك الوقت اسمه *دونالد ترامب* وهو الرئيس السابق للولايات المتحدة الامريكية والذي اخمد شرارة الازمة بسماحه للقذافي باقامة خيمته في فناء منزله (منزل ترامب) ومعه ناقته التي لا تفارقه!
وقالت التقارير أيضا إن القذافي في تلك الجلسة لم يتقيد بفترة الخمس عشرة دقيقة المخصصة لكل رئيس دولة بل تجاوزها واخذ يرغي ويزبد لمدة ٩٦ دقيقة ما جعل المترجم الفوري يغمى عليه؛ وهي ذات الجلسة التي مزق فيها القذافي ميثاق الامم المتحدة ويرميه بعيدا من على المنصة واصفا الجمعية العمومية باحاديث الغوغاء في *هايدبارك …*!!
