إلى مولانا الصادق النابلسي… لا تعر سكوتك لأحد
جهاد بزّي – كاتب لبناني
لا تعر سكوتك لأحد يا شيخنا. نحن بحاجة إلى كل نابلسي فيك، بخاصة ذاك المرح الذي لا يمل من إيقاع رفاقه في المقالب المضحكة ثم النظر إليهم بعينيه المنكسرتين، ليسامحوه على الفور، وتلين قلوبهم العديدة، ومعها قلوب أعدائهم العملاء.
من بين كل مفكري الممانعة، لا يرسب الشيخ صادق النابلسي في امتحان ملء الفراغ بين رد مرّ ورد تأخر عن موعده.
الشيخ، بملامحه المبتسمة دائماً؛ ابتسامة عارف، وصوته الناعم، يلف قلبه إيمان من نوع انقرض، يجعله يقينياً إلى تلك الدرجة المثيرة للإعجاب، وواثقاً بما يقول ويكتب، حد الذهول.
يمكن للنابلسي عالم الأحياء، مثلاً، أن يعتبر النموذج “الدارويني” هو “الوحش الذي يلتهم الضعاف من البشر ليثبت حق البقاء للأقوى حصراً”، فيقضي بضربة واحدة على النظرية وأعدائها معاً ولا يبقى من يخبّر، ولا يجد من قد يزعجُه كلامه.
يمكن له أيضاً، وفي رسالة تهديد مبطنة من النابلسي القائد الند للإدارة الأميركية، أن ينصحها بألا تحشد البحر بسفن نووية، لأنها “ستكون كارثة على من يركبها حال اندلاع الحرب الكبرى”. لماذا يا مولانا؟ “لأن القوة الغاشمة تحمل ضعفها معها”، يشرح النابلسي الفلسفي، ليضيف النابلسي العسكري بعده مباشرة أن “حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية يمكن تفجيرها بمسيّرة واحدة”. هل ألطف من كلام كهذا؟.
النابلسيون الأشبه باختصاصات متعددة في جامعة أم، يحرّضهم على الأرجح نابلسي مرح ذكي بالفطرة يجيد إيقاع رفاقه في المقالب، يحمسهم فيهرعون إلى الكتابة الجماعية ليقعوا ضحية متنمري “السوشال ميديا” بينما يقع النابلسي المرح على ظهره من شدة الضحك.
لمثل هذه الأسباب، يتفوق النابلسي على أترابه كبار المفكرين الممانعين، ليس لأنه عالم بكل شيء فحسب، بل لأنه يطرح إشكاليات من المستحيل نقاشها حتى مع رفاقه في الخندق الواحد، فكيف بأعدائه. يحكي النابلسي أو يكتب، فيسقط في يد الجميع، صديقاً وعدواً، ولأنه شيخ ودكتور معاً، يتأخر حلفاؤه في نصحه كما نصحوا السيد سامي خضرا من قبله، فلاذ بصمت كان الأكثر عمقاً في علم الكلام، كلامه.
ثم إن في شخصيات الشيخ بوذياً متمرساً في الهدوء وفي إصابة مستمعيه بعدواه. هو من نوع صنّاع المحتوى الذي يحتشد بهم “اليوتيوب” حالياً، يلجأ إليهم مئات الملايين من المصابين بالأرق كي تساعدهم أصواتهم على النوم، وكلما زاد حجم ترهاتهم وغرائبياتها، كلما ثقلت الأجفان الحائرة فمال أعلاها على أسفلها.
الشيخ، في المضمون لا يختلف عن رفاقه، وحده يحب فلسطين حبّاً جمّاً، لذا وحده يحق له أن يتهم من لا يوافقه رأيه ومنطقه وعقيدته بأنه كاره لفلسطين حكماً، وعميل لإسرائيل وأميركا حكماً، إن عن عمد أو عن جهل. إذ كيف يمكن لعاقل غير دارويني ألا يرى في السيد علي الخامنئي ونظامه غير ما يرى الشيخ فيه؟ كيف؟
لكن الشيخ يختلف شكلاً، حتى بينما يخوّن، يخوّن بلطف ورقّة تمنعان المتهم حتى من دفع التهمة عنه، بل تدفعانه إلى تقبلها حتى لا يجرح شعور الشيخ وأحاسيسه. وهذه نظرية شائعة ومثبتة علمياً، بحسب بعض الدراسات، بأن الإنسان لا يستطيع مقاومة النظرة المنكسرة للقطة التي يلين لها قلبه مهما قسا، فيسامحها برغم شناعة فعلها، بل قد تسلبه عقله فيمد لها ذراعه لتخدشه وعلى قلبه أطيب من العسل وأقراص الزبيب، حتى وهي ترتكب ما ترتكب لا يملك إلا أن يقول لها “يا نوسك”.
رقة الشيخ النابلسي هذه تجعله وردة في حقل من صبّار الممانعين، هم نزقون وطهرانيون (من طهارة وليس من طهران) وانفعاليون، ومن لطف القدر علينا أن ليس معهم حقيبة أزرار الصواريخ وشيفرتها السرية، فالتون من ألسنتهم وألسنتهم فالتة منهم، ومع ذلك كسالى لا يعرفون اختراع شتيمة واحدة جديدة، أو تهمة غير تلك التي عودوا خصومهم عليها، في هذا التنافس الشرس بينهم على إثارة إعجاب كبيرهم، خشب بخشب. وحده الشيخ، في هذه الصحراء المملة، واحة مياه عذبة.
قبل أيام، وبعدما طال انتظار الرد المزدوج فكثرت الثرثرة والثرثرة المضادة، تلقى مفكرو الممانعة تقريعاً يمكن وصفه بالقاسي طالبهم بإعارته سكوتهم. ليس لدى الكثيرين ممن هم على قلق كأن الريح تحتهم، إلا أن يدعوا الله صادقين بإلهام النابلسي سعة الصدر والحكمة والترفع، فلا يعتبر ذاته معنية بهذا التقريع، فالشيخ وحده الآن من يسلينا ووحده من يدفع الأرق عن أجفاننا.
لا تعر سكوتك لأحد يا شيخنا. نحن بحاجة إلى كل نابلسي فيك، بخاصة ذاك المرح الذي لا يمل من إيقاع رفاقه في المقالب المضحكة ثم النظر إليهم بعينيه المنكسرتين، ليسامحوه على الفور، وتلين قلوبهم العديدة، ومعها قلوب أعدائهم العملاء.