وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. “المتلازمة السودانية” والعوامل الهيكلية “1”

بقلم: بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي

وزير المالية والتخطيط الاقتصادى الأسبق

المدير التنفيذي، منتدى دراسات وابحاث التنمية

“السودان نقطة مضيئة في قارة مظلمة”

(صفحة الغلاف، مجلة نيوزويك في 23 فبراير 1953)

مقدمة

يعكس الاقتباس أعلاه من صفحة الغلاف لمجلة النيوزويك الأمريكية المرموقة قبل ثلاثة أعوام من استقلال البلاد تفاؤلاً اقليمياً وعالمياً واسعاً حول آفاق مستقبل السودان الذي كان يتأهب آنذاك لنيل استقلاله من الحكم الاستعماري البريطاني. فقد كان مشروع الاستقلال ثمرةً لاجماع الآباء المؤسسين فى نهاية المطاف حول شعار “السودان للسودانيين” وتلاحم نخبة الاستقلايين مع الارادة الشعبية التى جسدتها رعاية الإمام عبد الرحمن المهدى، عليه الرحمة والرضوان، والمواقف الشجاعة لقيادات تيار “وحدة وادى النيل” وزعيمها السيد اسماعيل الأزهرى، طيب الله ثراه، بالانحياز لخيار غالبية أهل السودان وقتذاك. وقد كان المشهد السياسى فى تلك الفترة والبلاد تتهيأ لنيل استقلالها يتسم بالتناغم والتكامل بين الثقل الشعبى الطاغى للأحزاب التاريخية – المدعومة في معظمها من المجتمعات الريفية وأتباع كيانى الأنصار والختمية – من جهة، ومنظمات المجتمع المدني والطبقة السياسية الحضرية والتى كانت صغيرةً حجماً، إلا أنها قد كانت أيضاً متطورةً وفعالةً بالمعايير العربية والأفريقية في ذلك الوقت، مما ساهم فى وضع الأساس لديمقراطية متعددة الأحزاب نابضة بالحياة حتى قبل أن تصبح البلاد مستقلة رسمياً.

علاوة على ذلك، سيخرج السودان من الحكم الاستعماري كأكبر بلد في إفريقيا، يتمتع بإمكانيات زراعية هائلة، وفي القلب منها مشروع الجزيرة للزراعة المروية الحديثة الذي يغطى أكثر من مليوني فدان. وعلاوة على ذلك، أورثت الإدارة الاستعمارية البلاد واحدة من أفضل المؤسسات العامة في أفريقيا، بما في ذلك نظام تعليمي متميز، وبنية تحتية ممتازة للبحوث والإرشاد الزراعي، وقضاء مستقل وخدمة مدنية تتميز بالمهنية والكفاءة العالية، فضلاً عن مؤسسات خدمية فعالة، مثل الموانئ والسكك الحديدية والبريد. وبالتالي، كان يُنظر إلى البلاد على أنها نجم إفريقي صاعد يتمتع بآفاق جيدة لبناء ديمقراطية مستقرة واقتصاد قوى ومتطور.

ولكن لسوء الحظ، فإن التفاؤل بشأن السودان لم يجانبه الصواب، بل قد كان أبعد ما يكون عن حال البلاد ومآلها فى مقبل السنين. فعلى الرغم من الإمكانيات البشرية والمؤسسية التي كانت متاحة في فجر الاستقلال منذ ما يقارب السبعون عاماً، إلا أن السودان قد أصبح يعرَّف بأنه بلد الصراعات وعدم الاستقرار السياسي والفشل التنموي. فقد شهد السودان بعد الاستقلال متلازمة الديمقراطيات الهشة قصيرة العمر، والانقلابات العسكرية المفضية إلى أنظمة استبدادية متطاولة، تُطاح بها فى نهاية المطاف انتفاضات شعبية عارمة، ممهدة الطريق لانتخابات حرة وحكومات ديمقراطية ضعيفة، سرعان ما تصبح هى الأخرى فريسة سهلة لانقلابات جديدة، وهكذا دواليك. وصفت وزميلى الأستاذ الزاكى الحلو فى ورقة مشتركة هذا المأزق المؤسف للمشروع الوطني في البلاد بـ “المتلازمة السودانية”(1).

أكثر من ذلك مع كل حقبة جديدة من حكم الشمولية ترزح البلاد فى أزمة أعمق، والتى بلغت ذروتها مع وصول نظام الإنقاذ الكليبتوقراطى للسلطة فى انقلاب الثلاثين من يونيو المشئوم. على عكس النظامين الشموليين اللذين سبقاه، فقد كان هذا النظام “شمولياً استيطانياً”، متجاوزاً كل الكوابح والمعايير القومية لتمكين نخبته “الإسلاموية” الفاسدة فى كل مفاصل الدولة السودانية وأخطر مؤسساتها المتمثلة فى قواتها المسلحة والقوات النظامية الأخرى، الأمر الذى قذف البلاد فى هذه الفتنة الماحقة حتى بعد أن أُطيح به بعد أعظم الثورات الشعبية التى شهدتها منطقتنا الأفريقية والعربية.

 

أولاً، إرث من التشرذم والانقسامات المجتمعية:

لا شك أن العوامل الهيكلية التاريخية والمجتمعية والجهوية قد شكلت الأسباب الكامنة وراء صناعة المتلازمة السودانية. تقدر درجة التنوع الإثنى فى المجتمع السودانى بحوالى 0.71، بحسب مؤشر التنوع المجتمعى الإثنى (يساوى 1 عندما يكون كل فرد فى المجتمع ينتمى الى مجموعة هوياتية مختلفة وصفر عندما ينتمى كل أفراد المجتمع الى مجموعة واحدة)، مما يعنى أن المجتمع السودانى بالغ التنوع. إذا لم يُحسن ادارة مثل هذا التنوع الكبير سيتحول لا محالة إلى “تشرذم مجتمعى”(2)(social fractionalization) ، يؤسس للحروب والنزاعات الهوياتية فى حالة الاقتصادات المتخلفة، كما سنبين ذلك فى مقالات قادمة بإذن الله. أكثر من ذلك، فقد كان الإنقسام العمودى بين شمال البلاد وجنوبه على أسس دينية ومجتمعية أكثر عمقاً وخطورة. فبالنسبة للإنقسام العمودى على أساس الانتماء الدينى، فقد سجل السودان الرقم 0.77 فى مؤشر الإستقطاب المجتمعى (social polarization) ، ويتراوح هذا المؤشر(3) من صفر عندما يكون كل فرد فى المجتمع ينتمى الى مجموعة مختلفة ويصل إلى الحد الأقصى (الرقم 1) عندما تكون هناك مجموعتان متساويتان في المجتمع من حيث عدد السكان. عليه، بعد الاستقلال كان المجتمع السوداني يتسم بالتجزئة الشديدة على أسس عرقية وكذلك بالاستقطاب الديني الشديد. وفي حين أن هذين المؤشرين يمكن مقارنتهما بمتوسطات أفريقيا جنوب الصحراء، إلا أنهما أعلى بكثير من المؤشرات العالمية والعربية. ومثلما هو الحال في أفريقيا جنوب الصحراء، عانى المجتمع السوداني من صراعات طويلة الأمد بسبب فشل النخب الحاكمة في إدارة هذا التنوع والاستقطاب الاجتماعي المركب.

فقد أفرز الاستقطاب الاجتماعي تحديات كبيرة للآباء المؤسسين لاستقلال البلاد، الذين فشلوا في إدراك الأهمية الحاسمة للوفاء بـ “العهد الاتحادي”(federal pledge) الذى قُدموه للنخبة الجنوبية بشأن النظام الفيدرالى لضمان موافقتهم على البقاء ضمن السودان المُوَّحد. وفي اعتراف صريح من بعض القيادات الوطنية اللاحقة، أقر الإمام الصادق المهدى بأن النخب السودانية الشمالية ارتكبت خطأً فادحاً باعتقادها أن مشروع التعريب والأسلمة سيساعد على توحيد البلاد، وإن كان قد ميز بين النهج الطوعي في ظل الحكومات السودانية الديمقراطية التي لم تعمر طويلاً وبين نهج الأنظمة العسكرية التي حكمت البلاد طويلاً، خاصة في عهد الإنقاذ. ولا شك في أن مشروع الاستيعاب الضمني قد أشعل نيران الحرب الأهلية في السودان. وللأسف لم تتوافق النخب بعد ثورة أكتوبر على مقترح “الحكم الإقليمى” لجنوب البلاد الذى قدمه الإمام كركيزة أساسية لمشروعه الوطنى خلال رئاسته الأولى (27 يوليو 1966- 15 مايو 1967)، والتى كما أشرنا فى مقالٍ سابقٍ، بالرغم قصرها قد كانت بالغة الأثر في حينها، عظيمة الدلالة لما بعدها من حقب وحتى بالنسبة ليومنا هذا وبلادنا تمر بأخطر مرحلة منذ الاستقلال جراء هذه الحرب الماحقة.

وكما أشار الديبلوماسى والمفكر السودانى الدكتور فرانسيس دينق، فإن السياسات الإقصائية تعمق التشرذم المجتمعى وتجعله أكثر صلابة(4). برأى، تأسيساً على هذه الأطروحة، فقد ساهم نظام الانقاذ بمشروعة المُوغِل فى التهميش والإقصاء إلى جعل التباينات الإثنية فى شمال السودان – والتى كانت تعتبر من مستوى “الدرجة الثانية”، مقارنة بالإنقسام العمودى بين الشمال والجنوب – كافية لإشعال حروب دارفور.

ثانياً، إرث من الاستقطاب والنزاعات والتخلف:

بالنظر للخلفية التاريخية لظهور الأحزاب السياسية وطبيعة الديمقراطية البرلمانية الهشة وغير الملائمة لأوضاع السودان المنقسم اجتماعياً ومتخلف اقتصادياً، اتسمت الأنظمة الديمقراطية بممارسات سياسية شديدة الاستقطاب لم تترك مجالاً كبيراً لبناء وتنفيذ برامج تنموية طويلة الأمد. من ناحية أخرى، وعلى الرغم من حقبة حكمها المتطاولة لم تستطع الأنظمة العسكرية أن تؤسس لنُظم حكم مستقرة، كما إن استراتيجياتها الاقتصادية كانت عرضة للانتكاس والفساد والإدارة غير الشفافة.

أيضاً، فقد واجهت الديمقراطية الائتلافية الضعيفة أصلاً، بسبب الانشقاقات السياسية الداخلية بين الأحزاب الحاكمة وفيما بينها، واجهت مزيداً من التحديات من قبل الحزب الشيوعي السوداني وحركة الإخوان المسلمين. ورغم أن هاتين الحركتين متعارضتين أيديولوجياً بشكل صارخ وقد كانت لهما قواعد شعبية محدودة، إلا أنهما استطاعتا حشد دعم كبير بين المهنيين والطلاب. وانطلاقاً من منظورين مختلفين، حاول هذان التياران منافسة هيمنة الحزبين التاريخيين: الأمة والاتحاد الديمقراطى. فقد كانت الحركة العمالية والمهنية قاعدة قوية لليسار بصورة عامة والحزب الشيوعى على وجه الخصوص. وعلى الطرف الآخر، سعت حركة الإخوان المسلمين، التي تعاظم نفوذها منذ منتصف السبعينيات، إلى تحدي المرجعية الدينية للحزبين من خلال الترويج لرسالة سياسية تتمحور حول الدعوة إلى الدستور الإسلامي. في مواجهة الهيمنة الانتخابية للحزبين التقليديين، وجد كل من الشيوعيين والإخوان المسلمين طرقا للتأثير على السياسة فى السودان بتفعيل الحركة النقابية والطلابية كروافع للمعارضة السياسية، بل وقد ذهبا إلى دعم ورعاية الانقلابات العسكرية ضد الديمقراطية السودانية الناشئة والتى كانت بالنسبة لليسار تمثل “المصالح الطبقية للطائفية الدينية الرجعية” وبالنسبة لليمين الإسلاموى تعتبر عائقاً للمشروع “الإسلامى” الذى يسعون لتحقيقه(5).

لم يقتصر عدم الرضى من الدور المهيمن للأحزاب التقليدية في السياسة الانتخابية الديمقراطية على الأحزاب “الأيديولوجية” فقط، مثل الحزب الشيوعي وجبهة الميثاق الإسلامي، بل عمت شريحة واسعة من المهنيين السودانيين، الذين لم يتوانوا عن التعاون مع الأنظمة العسكرية الشمولية، مثل نظام مايو (1969-1985)، بحسبان أن هذه الأنظمة ضرورية لانجاز التحولات الاقتصادية المطلوبة لتحديث المجتمع وتهيئة البلاد للانتقال الديمقراطى(6). فى هذا السياق، حلل الراحل محمد هاشم عوض، الأكاديمي والوزير فى نظام مايو، الخلفية الاقتصادية والاجتماعية لأعضاء المجلس الاستشاري لشمال السودان قبل الاستقلال (1944)، والمجلس التشريعي (1948)، والبرلمانين الأول والثاني (1954-1958)، حيث قاده تحليله إلى وصف الديمقراطية البرلمانية السودانية بأنها “بلوتوقراطية” لـ “الأغنياء الذين سادوا وجمعوا النفوذ القبلي والطائفي …” (7). ومع ذلك، فإن هذا الرأي حول الخلل المزعوم للديمقراطية السودانية التي تهيمن عليها الأحزاب التقليدية قد عارضه آخرون من داخل مجتمع “النخب المثقفة” نفسه. فعلى سبيل المثال، يرى الأكاديمي والمفكر الماركسي البارز، بروفيسور عبد الله علي إبراهيم، أن البرجوازية الصغيرة وقواها الحديثة تعاني مما أسماه “الحسد الانتخابي” تجاه الأحزاب التقليدية ومضى في توصيف جوهر أزمة الهوية السياسية للنخب السودانية، وهو ما نقتبسه أدناه (إبراهيم، 2021: ص 7-8)(8):

” تعاني البرجوارية الصغيرة وقواها الحديثة مما سميته “حسد انتخابي” حيال أحزاب القوى المحافظة أو الوصائية. فهي قليلة النفر في محيط سياسي يصوَّت أهله لأحزاب طبقة الإرث التقليدية أو الإسلامية متى نالوا حق الاقتراع العام. واستنكرت هذه الطبقة، التي ملكت أدوات الدولة وانحرمت من سدتها، دائماً حظها البخيس من الحكم في النظام البرلماني برغم أنها، بزعمها، من جرى تأهيله للمهمة. وحالت وخامة حكم هذه الأحزاب عليها دونها وتنمية ذوق لليبرالية، أي الاقتراع العام، بوصفها ب”الديمقراطية الطائفية”. ويعنون أن للسيد في الطائفة والعشيرة سلطان على أصوات تابعيه. ولذا كثيراً ما تذرعت هذه الصفوة، في منعطفات حرجة في حكم الأمة، بوجوب قيام حكومة “تكنوقراط”، أي حكومة هم قيمون عليها بدالة التأهيل المهني. وتريد التعويض بكل ذلك عن محك الانتخابات التي لم تأت أبدأً بما تشتهى سفنها، بل مكنت للطبقة الإرثية المعززة بالجمهرة. وهنا الأصل في سقم هذه الطبقة من الديمقراطية الكافلة حق الاقتراع للكافة، وتربصها بها بانقلابات هدت بها حيل الطبقة الإرثية التي حبست دربها لجاه الحكم. واستبدلت هذه الطبقة الديمقراطية البرلمانية كحق للاقتراع العام المعزز بالحرية بأشكال مسيخة من “مجالس شعب” أو “مجالس وطنية” على عهدي الرئيس نميري (١٩٦٩-١٩٨٥) والرئيس عمر البشير (١٩٨٩-٢٠١٩). وهي مجالس توطأت بها علي هذا الحق العام بطرق شتى احتالت بها لتنفيذ برنامجها من عل.”

وبسبب هذا الاستقطاب السياسي الحاد تواترت الأزمات السياسية للديمقراطيات الهشة قصيرة العمر، والانقلابات والأنظمة الاستبدادية العسكرية التي حكمت البلاد لفترات متطاولة. وقد كان الاستقطاب السياسي المتزامن مع تسييس المؤسسة العسكرية السبب المباشر فى تدخل العسكر فى السلطة؛ بحيث أصبح الضباط العسكريون امتداداً للمدنيين في الداخل، وأصبح الانقلاب العسكري استمراراً للعملية السياسية. وقد أنتج هذا الوضع المأساوي بدوره سجلاً تنموياً مخيباً للآمال، وعرّض البلاد إلى حلقات مدمرة من الحروب الأهلية.

ثالثاً، مشروع الإمام الصادق المهدى مرة أخرى:

“وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ” (الذاريات، 55)

كما أبنا فى التحليل أعلاه فقد شكَّلت التركيبة الهوياتية المعقدة للشعب السودانى والخلفية التأريخية المماثلة تحدياً كبيراً لنخبة الآباء المؤسسين وتابعيهم من القادة، والذين للأسف لم يحسنوا التعامل معه مما أفرز حالة سياسية بالغة الإستقطاب. فقد نشأت معادلة ثنائية عدمية بين الأحزاب التاريخية ذات الثقل الشعبى والقوى الحديثة المتمثلة فى اليسار العلمانى واليمين الاسلاموى وغيرهما من النُخب المهنية. فالأحزاب التاريخية لم تنتبه لمحدودية الديمقراطية البرلمانية والتنافس الانتخابى الصرف فى ظل الأوضاع التى كانت سائدة فى بدايات عهد الاستقلال، بينما كانت القوى الحديثة مسكونة بما أسماه عبد الله على ابراهيم “الحسد الانتخابى”، الأمر الذى دفعها الى محاولات إعاقة الديمقراطية الوليدة قدر استطاعتها بالوسائل الديمقراطية، وإذا لزم الأمر، بغيرها أيضاً، عن طريق تقديم الدعم وحتى المشاركة فى الأنظمة الانقلابية الشمولية.

بالمقابل، قدم الإمام الصادق المهدى فى رئاسته الأولى (1966–1967) بعد ثورة أكتوبر مشروعاً وازناً للإنتقال من هذه الثنائية المدمرة إلى معادلة توفيقية كسبية لبناء السلام وتحقيق تحولات اقتصادية نهضوية لتحصين الديمقراطية الفتية. ففى هذا السياق طرح الإمام الصادق المهدي مشروعاً سياسياً طموحاً لتقوية الحكومات الائتلافية الهشة عبر مصالحة وطنية واسعة. هذا المشروع استهدف تجاوز محدودية الديمقراطية البرلمانية في مجتمع تقليدي متخلف اقتصادياً، وذلك بإشراك كل القوى السياسية والاجتماعية – بما في ذلك النقابات والطلاب والقوى الحديثة – في حكومة وحدة وطنية ذات برنامج متفق عليه. ركّز الإمام على أن المصالحة الوطنية لا تعني مساومات حزبية ضيقة، بل هي إطار لتوحيد الإرادة الوطنية حول القضايا الكبرى مثل معالجة أزمة الجنوب، صياغة دستور دائم، وإخضاع الجيش لسلطة مدنية منتخبة. وبذلك أراد أن يعالج جذور أزمة الحكم والانقسامات الحزبية التي كانت تعصف بالتجربة الديمقراطية الوليدة.

أما في الجانب الاقتصادي، فقد شدد الإمام الصادق على ضرورة تحقيق ما أسماه “الشرعية الاقتصادية” عبر برنامج إصلاحي وتنموي يقوده تحالف واسع، يوازن بين متطلبات الاستقرار المالي والنقدي وبين التزامات الدولة الاجتماعية. دعا إلى تطوير الزراعة لتحقيق تراكم رأسمالي وبشري يمهّد لقاعدة صناعية قوية، ورأى أن الدولة يجب أن تقوم بدور “ناظم” لاقتصاد السوق مع ضمان الحماية الاجتماعية. كان هدفه الوصول إلى توافق على برنامج اقتصادي قومي تنفذه حكومة الوحدة الوطنية باعتباره مدخلاً لمعالجة التخلف التنموي وترسيخ الديمقراطية الاجتماعية. بهذا المشروع حاول الإمام الصادق الجمع بين إدارة التنوع السياسي والاجتماعي ووضع أسس لتحول اقتصادي هيكلي، ما جعله سابقاً لعصره في إدراك العلاقة العضوية بين بناء السلام، ترسيخ الديمقراطية، وتحقيق التنمية المستدامة.

لقد رحل عنا الإمام، عليه الرحمة والرضوان، ولسان حاله كما أنشد الشاعر:

نصَحْتُ لهم نُصْحي بمُنْعرج اللّوى * فلم يستبينوا الرّشد إلى ضحَى الغد

علنا نستبين النصح حتى ولو بعد، بعد ضحى الغد.

 

Elbadawi, Ibrahim and Alzaki Alhelo. (2023). “The Sudan Syndrome: State-Society Contests and the Future of Democracy After the December 2018 Revolution,” ERF Working Paper No. 1644, Economic Research Forum, Cairo, Egypt: August.

يٌقاس مؤشر التشرذم المجتمعى لبلد معين (j) ب: , حيث هو حصة المجموعة i (i=1، …، N) في البلد j.

ويٌقاس مؤشر الاستقطاب أو الانقسام العمودى المجتمعى لبلد معين (j) ب: , حيث هو حصة المجموعة i (i=1، …، N) في البلد j.

https://www.amazon.com/ -Visions-Conflict-Identities-Sudan/dp/0815717938: War of Visions: Conflict of Identities in the Sudan Paperback – August 1, 1995: – Dr. Francis M. Deng

دعم الحزب الشيوعي السوداني وحلفاؤه اليساريون انقلاب الجنرال نميري في مايو 1969 ورعوا الانقلاب الفاشل الذي قام به الرائد هاشم العطا في يوليو 1971. اكتسبت الجبهة الإسلامية القومية نفوذاً كبيراً عندما برزت كداعم رئيسي لنظام النميري منذ عام 1977 وحتى انهياره عام 1985، مما سمح لها بالقيام بانقلاب ناجح ضد النظام الديمقراطي الذي أعقب انتفاضة مارس-أبريل 1985. وقد تمكن هذا النظام من البقاء في السلطة لنحو 30 عاماً قبل الاطاحة به في أعقاب ثورة ديسمبر 2018.

دكتور منصور خالد. 2010. حوار مع الصفوة. الناشر: دار المدارك – https://africancenterlibrary.com/ShowBook/1/7/3446

Awad, Muhammad Hashem (1968). “Plutocracy: Exploitation and Corruption of Government in Sudan,” unpublished mimeo, University of Khartoum, Khartoum, Sudan.

بروفيسور عبد الله على ابراهيم.2021. “مفهوم الصحوة: إننا نتعثر حين نرى”، ورقة مقدمة في المؤتمر حول الانتقال الديمقراطي في السودان والجزائر.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.