حيدر المكاشفي يكتب.. “ترسين… حين ابتلعت الجبال البشر وابتلع الجدل الحقيقة”
في قلب جبل مرة، على أرض ترسين الهادئة، انهارت الجبال فجأة وكأنها قررت أن تبتلع أبناءها. في لحظة قصيرة، تحولت القرية إلى صرخة مدفونة تحت الركام، وإلى مأساة لم يتفق الناس حتى الآن على حجمها. هل مات الآلاف كما تقول قوى محلية، أم مجرد شخصين كما زعمت وزارة الصحة، وما بين الرقمين فجوة من الدم والدموع والرماد، وفجوة أخرى من الحقيقة المغيبة..إنها فاجعة بين الجبال، ففي أعالي جبل مرة، بين قرى تكسوها الخضرة ويطرزها المطر، كانت ترسين قرية هادئة، حتى جاء اليوم الذي تحولت فيه إلى شاهد على مأساة تهز الضمير الإنساني. أمطار غزيرة لم تتوقف لأيام، جبال بركانية شديدة الانحدار، وتربة فقدت تماسكها… كل ذلك اجتمع ليصنع انزلاقا أرضيا هائلا دفن تحت صخوره بيوتا وأرواحا وأحلاما. لم يترك الانهيار شيئا إلا وطمسه؛ البشر والماشية والأشجار، وحتى الطرق التي يمكن أن تنقل خبر الكارثة..
منذ اللحظة الأولى، لم يكن الجدل حول ما جرى أقل قسوة من الكارثة نفسها. السلطة المدنية في مناطق حركة تحرير السودان تحدثت عن ألف قتيل، وبعض مسؤوليها أكدوا انتشال 370 جثة، فيما ذهبت تصريحات أخرى إلى أن العدد ربما تجاوز 1500. وفي الجهة المقابلة، خرجت وزارة الصحة السودانية لتقول بكل بساطة الضحايا شخصان فقط. هكذا، في بلد مثخن بالجراح، أصبح موت المئات وربما الآلاف موضوعا للإنكار أو التصغير، وكأن الحقيقة لا تكفي وحدها لتحرك الضمير. هذا التضارب لم يكن مجرد خلل إداري أو ضعف في التنسيق. بل كان انعكاسا مباشرا للانقسام السياسي والعسكري في دارفور، حيث يتحول حتى موت الناس إلى ورقة للمزايدة. أنصار حركة تحرير السودان اتهموا وزارة الصحة بمحاولة التغطية على حجم الكارثة، بينما اعتبرت الحكومة تصريحات الحركة تضخيما متعمدا لاستثمار المأساة سياسيا. في خضم هذا السجال، ضاعت الحقيقة، وبقيت الجثث تحت الركام بلا هوية ولا رقم. فالأيام الأولى بعد الكارثة كشفت عجزا مخيفا. فرق الإغاثة الأممية والدولية احتاجت إلى أكثر من ست ساعات للوصول، بعضها على ظهور الحمير بسبب وعورة الطرق وانقطاعها. أما مؤسسات الدولة الرسمية، فكانت غائبة إلا في البيانات. وهكذا وجد الأهالي أنفسهم يواجهون المأساة بأيديهم العارية، يحفرون التراب وينتشلون جثث أحبائهم. لقد كان مشهدا يلخص حال بلاد تترك فيها القرى الصغيرة لمصيرها، بينما تنشغل السلطات بحسابات السياسة.. ولفهم ما جرى، لا بد من العودة إلى الظاهرة نفسها. الانزلاق الأرضي يحدث حين تتشبع التربة بالماء فتفقد تماسكها، فتتحرك الصخور والأتربة نحو المنخفضات بسرعة مدمرة. في المناطق الجبلية البركانية مثل ترسين، يزداد الخطر أضعافا، لأن الأمطار الغزيرة تجعل الأرض كأنها تنساب تحت نفسها. في دقائق قليلة، يمكن أن تجرف كتلة واحدة من الصخور قرية كاملة. هذا ما حدث هناك: الطبيعة ثارت، لكنها لم تكن وحدها الجلاد. فلو وجدت خطط إنذار مبكر، أو خرائط للمناطق المهددة، أو استعداد مسبق، لكان بالإمكان تقليل الخسائر.. في الأخبار، قد يمر ذكر الضحايا كأرقام فقط، لكن في الواقع كانوا أطفالا ينتظرون عودة مدارسهم بعد المطر، وأمهات يحضرن الخبز على النيران، ورجالا يسقون ماشيتهم. أحد الناجين قال إن الصراخ كان يتداخل مع هدير الصخور، وإن كثيرين ماتوا وهم يحاولون إنقاذ غيرهم. إنها قصص بشرية لا تصل إلى البيانات الرسمية، لكنها تسكن وجدان من شهدوها.. الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية سارعت – بعد أيام – لإرسال فرق طبية ومواد غذائية وإيوائية. لكن الكارثة سبقت وصولها، ولم يكن ما أُرسل إلا إسعافا للناجين، لا للضحايا. كان يمكن أن تكون الاستجابة أسرع وأكثر فاعلية، لولا غياب التنسيق وضعف البنية التحتية. المؤلم أن المجتمع المحلي كان هو المستجيب الأول، بينما العالم اكتفى بالانتظار حتى تتضح (الأرقام الدقيقة)، وكأن الدقة أهم من الأرواح. إن مأساة ترسين ليست مجرد حادث جيولوجي؛ إنها مرآة لحالنا. كشفت كيف أن الدولة غائبة، وكيف أن الحقائق تطمر بالسياسة، وكيف أن أرواح الناس تترك في مواجهة الطبيعة بلا حماية. لكنها أيضا أظهرت أن التضامن الشعبي ما زال حيا، وأن البسطاء رغم ضعفهم هم أول من يهرع لنجدة بعضهم بعضا. إن ما بعد ترسين لا يجب ان يكون كما قبلها. هذه المأساة يجب أن تكون جرس إنذار لوضع خطط للطوارئ، ولتعزيز الشفافية في الكوارث، وللاعتراف بأن حياة الناس أهم من صورة السلطة. فالجبال قد تثور مرة أخرى، والأمطار ستعود، لكن الجريمة الكبرى أن ننغمس في يوميات الحرب العبثية المهلكة وأن نبقى نحن كما نحن، نتجادل في الأرقام بينما تدفن القرى تحت التراب..