
تشكيليون سودانيون يصورون واقع الفاشر المؤلم بألوانهم
الغد السوداني _ وكالات
بين جدران العالم الافتراضي، حيث تتقاطع صرخات الجوع مع أصداء القصف في مدينة الفاشر غرب السودان، ويهيم الأطفال في أزقة الحرمان، يرفرف الفن كسهم نور في الظلام، على شاشات الهواتف والحواسيب، ويتحول اللون إلى لغة، والريشة إلى جسر، واللوحة إلى رسالة صمود ترسل عبر الأثير لتخبر العالم أن الإبداع لا يموت، وأن الجمال قادر على جمع شتات القلوب الممزقة وزرع الأمل في أعماق اليأس.
ففي مبادرة تضامنية تحت شعار “قلوبنا مع فاشر السلطان” أقام الاتحاد العام للفنانين التشكيليين السودانيين معرضاً إسفيرياً دعماً لسكان مدينة الفاشر الذين يواجهون أوضاعاً إنسانية كارثية نتيجة القصف والجوع وانعدام أبسط مقومات الحياة، ووحد التشكيليون أصواتهم البصرية في نداء إنساني يتجاوز الحدود والمسافات، ينقل الألم إلى بصيرة، ويصبغ الظلمة بألوان الأمل.
حكايات الناس
عمل أكثر من 100 فنان تشكيلي سوداني على تقديم مجموعة أعمال عن حكايات الناس تحت القصف ورحلات النزوح من مكان إلى آخر بحثاً عن الأمن وحماية العائلة، وكذلك قصص الدمار والفقد والموت والجوع والألم والصبر والصمود والانكسار. وقدم بعض الفنانين تصورات بصرية لمدينة الفاشر باعتبارها حاضنة هوية تاريخية، ثم كمدينة تقاوم الحصار وتتحدى التهميش، واستقطبت مأساة الفاشر اهتمام تشكيليين سودانيين كثر في دول عدة، قدموا أعمالاً نوعية بأساليب مختلفة، منها لوحات مباشرة وبوسترات إيضاحية تحاكي التجارب وصوت الفنانين، فاسم الفاشر وحده كفيل بجذب الأنظار وإحياء مشاعر الانتماء.
تضامن إنساني
في السياق قال الأمين العام لاتحاد التشكيليين السودانيين عصام عبدالحفيظ “على مر تاريخ السودان الحديث كان التشكيليون في المقدمة لكل القضايا الوطنية والمجتمعية، وشاركوا في تشكيل الوجدان البصري بكثير من التجارب التي تمت من خلال المشاركات والورش عبر تاريخ طويل، وتشهد المحافل الثقافية في العاصمة الخرطوم على مبادرات الاتحاد في الأزمات والكوارث بخاصة أيام الجفاف والتصحر في ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك التجارب التي استمدها التشكيليون في الرحلات الدراسية التي كانت تقام في مناطق مختلفة بالبلاد”، وأضاف “هذه الخطوة تأتي استجابة لرسائل الصمود التي بعث بها الفنان صلاح إبراهيم من قلب المعاناة، وتجسيداً للدور التاريخي للفن التشكيلي السوداني في مرافقة النضال الوطني، منذ بداياته وحتى ثورة ديسمبر (كانون الأول)، وهذه اللحظة ليست فقط فعل تضامن، بل فرصة تاريخية لتوحيد التشكيليين السودانيين وإيصال رسالة إنسانية إلى العالم”، وأشار عبدالحفيظ إلى أن “تاريخ التشكيليين متعدد، وآخر تجربة كانت نهاية العام الماضي، في (معرض لا للحرب وضد خطاب الكراهية)، الذي شارك فيه أكثر من 100 تشكيلي من بقاع العالم كافة، ومع تفاقم معاناة السودانيين في الفاشر تنادى الفنانون من جديد لدعم إنسان السودان، وهذا هو دورهم المستمر في الدعم الإنساني والبعد من الحرب والكراهية والعنصرية”، وتابع “شارك في المعرض الإسفيري أكثر من 100 فنان تشكيلي سوداني من شتى بقاع العالم، بأساليب مختلفة، منها بوسترات إيضاحية ولوحات مباشرة، وأفكار مختلفة تحاكي تجاربهم النوعية”، وأوضح الأمين العام لاتحاد التشكيليين السودانيين أن “فكرة الأعمال الفنية ترتكز على التضامن مع سكان الفاشر وإعلاء صوت المعاناة الإنسانية في المدن والمناطق السودانية كافة، لذا تداعى التشكيليون ليعبروا بسلاحهم، وهو الفن بصور مختلفة”.
صوت اللون
من جهته وصف عميد كلية الفنون الجميلة السابق بجامعة “السودان” التشكيلي عبدالرحمن شنقل مبادرة “قلوبنا مع فاشر السلطان” بأنها ليست مجرد معرض افتراضي، “بل لحظة سحرية تتقاطع فيها الدماء والدهشة، لتخرج اللوحة من القماش إلى روح الإنسان، معلنة أن الفن حاضر كما كان دائماً في مواجهة العنف، وأن صوت اللون أبلغ من أي صراخ، وأن قلب السودان ما زال ينبض بالإبداع والمقاومة والعزة”، وأشار إلى أن “الأعمال الفنية توقظ الضمير والوعي الإنساني لمأساة سكان مدينة الفاشر التي تمثل رمزية لجميع السودانيين، بالتالي، قوبلت المبادرة باستجابة كبيرة من التشكيليين لدورهم الإنساني وهمومهم ومواقفهم التاريخية تجاه الوطن”، وأوضح شنقل أن “دور الفن يتمثل في التعبير عن الأحداث بكل صدق وشفافية، ومن واقع اهتمامي بقضايا السلام ونبذ العنف والقتل والحرب، شاركت في المعرض الإسفيري بعمل عن أوضاع النازحين ومعاناتهم في رحلات التشرد، وكذلك ما يتعرضون له من انتهاكات وحرمان ومجاعة”، ونوه بأن “هذا المعرض ليس دعوة إلى التأمل فحسب، بل فرصة لتوحيد التشكيليين السودانيين، وإعلاء صوت الفن في مواجهة الألم ونبذ الكراهية، وإعلان أنه يمكن للخيال واللون أن يحملا رسالة أمل حتى في أحلك لحظات التاريخ، وإظهار أن الإبداع هو آخر حصن للإنسان حين تتآكل حوله كل المقومات”.
تظاهرة فنية
على صعيد متصل قال التشكيلي السوداني هيثم سليمان النيل إن “المعرض الإسفيري ليس مجرد تجمع فني، بل هو منبر مقاومة بصرية يعبر عن الألم والدمار الذي تعيشه مدينة الفاشر في ظل الحصار والتجويع لأكثر من 500 يوم تعرض خلالها السكان لانتهاكات واسعة ومعاناة إنسانية ومعيشية صعبة للغاية”، وأضاف “اجتمع أكثر من 100 تشكيلي سوداني لتصوير الواقع الذي يعيشه سكان الفاشر وفق رؤاهم، وعبر كل فنان بالألوان عن مشاهدته تفاصيل الأحداث الجارية بأسلوبه الخاص، وصبغت بعض الأعمال الفنية بملامح الألم ومشاهد الخوف والدموع والقلق”، ووصف النيل المعرض بأنه “تظاهرة فنية تتحدى الموت والحصار وتكسر الحواجز والحدود وتسهم في نقل الواقع عن الفاشر من خلال الأعمال التي عبرت عن قصص الدمار والفقد والموت والضعف والنزوح والجوع والألم والصبر والصمود والانكسار”، وتابع “استخدم الفنانون وسائل مختلفة في ميدان المقاومة، موظفين قوة الصورة واللون والخط لتسليط الضوء وتعميق الوعي، وكذلك تحريك القلوب والعقول، وفي هذه المبادرة يوفر الفن الطرق القوية للرؤية ويقدم السردية التي لا تقل أهمية عن سرديات فكرية وسياسية واجتماعية وأدبية”.
حصار وأزمات
تعيش مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور ظروفاً إنسانية قاسية جراء الجوع والمرض وانعدام شبه كامل للغذاء بسبب الحصار المفروض عليها بواسطة قوات “الدعم السريع” منذ أكثر من 15 شهراً، فضلاً عن الهجمات والقصف المدفعي المتكرر، في وقت فشلت فيه النداءات والدعوات المحلية والإقليمية والدولية في دفع “الدعم السريع” لرفع الحصار والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدينة.
ويعاني نحو 40 في المئة من الأطفال تحت سن الخامسة سوء التغذية الحاد، بحسب بيانات الأمم المتحدة، ويأكل المدنيون علف الحيوانات، بينما يموت كثر ممن يهربون إلى الصحراء جوعاً أو جراء العنف.
وتظهر صور الأقمار الاصطناعية توسع المقابر، ويتحدث المدنيون الذين يعانون الجوع عن اضطرارهم إلى الاختباء داخل ملاجئ موقتة لحماية أنفسهم من القصف المتواصل.
وتفرض “الدعم السريع” التي تخوض حرباً مع الجيش السوداني منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023 حصاراً منذ مايو (أيار) من العام ذاته على الفاشر، المدينة الرئيسة الوحيدة في الإقليم، والتي لا تزال تحت سيطرة الجيش.
“نقلاً عن إندبندنت عربية”