وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. “الإمام الصادق المهدي في رئاسته الأولى: المشروع والبرامج”

نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى

المقال الرابع – الإمام الصادق المهدى فى رئاسته الأولى: المشروع والبرامج

بقلم: بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي ، وزير المالية والتخطيط الاقتصادى الأسبق ،المدير التنفيذي، منتدى دراسات وابحاث التنمية

مقدمة:

شهدت قاعة الشارقة بجامعة الخرطوم على مدى يومى 26 و27 من نوفمبر 2022، فعاليات إحياء الذكرى السنوية الثانية لرحيل الإمام الصادق المهدى، عليه الرحمة والرضوان، حيث غصت جنباتها بالمشاركين من مختلف فئات الشعب السودانى – شيباً وشباباً، نساءً ورجالاً من مختلف المشارب والإنتماءات السياسية والفكرية. وبالرغم من حالة الحزن التى وسمت المناسبة، الا إنها قد كانت بمثابة احتفالٍ بحياة الراحل الكبير كأحد أبرز الأعلام والرموز الوطنية فى السياسة والفكر والثقافة، وتقديراً لعطائه الثر ونضاله الجسور على مدى ستين عاماً ونيف. لقد تناولت الأوراق والمداخلات المتعددة التى انتظمت هذه المناسبة مساهمات الصادق المهدى فى ذلك الزمان الباكر فى مختلف ساحات العمل السياسى والفكرى وكذلك استخلصت العبر والدروس المستفادة من تراثه الوطنى الباذخ. وقد كان من حسن حظى بأن كُلِّفت من قبل اللجنة القومية لتخليد ذكرى الإمام، باعداد وتقديم ورقة عن الإمام فى رئاسته الأولى.

لقد كانت رئاسة الصادق المهدى الأولى لحكومة السودان، قصيرة العمر، لم تتعدى تسعة أشهر (27 يوليو 1966- 15 مايو 1967). إلا أنها رغماً عن ذلك قد كانت بالغة الأثر في حينها، عظيمة الدلالة لما بعدها من حقب وحتى بالنسبة ليومنا هذا وبلادنا تمر بأخطر مرحلة منذ الاستقلال جراء هذه الحرب الماحقة. لقد بشر رئيس الحكومة في ذلك الزمن الباكر من مسيرة الديموقراطية السودانية، بعد أقل من سنتين من نجاح ثورة 21 أكتوبر 1964 المجيدة، بشر بمشروع نهضوى، حداثى، يستدعى تأريخ وأصالة السودان كمهد لحضارة عريقة، مستنداً إلى فكرٍ إسلامىٍ تقدمىٍ يوائم بين التراث الثورى للمهدية وسماحة الموروث الصوفى، مستوعباً التنوع الدينى والجهوى والاثنى، بل وحتى الانقسام العمودى بين مكونى المجتمع السودانى الشمالى والجنوبى . لقد نهض هذا المشروع الوطنى على ثقافة موسوعية لهذا الرئيس الشاب تشربت بفهم عميق للمقاصد الكلية للأديان السماوية، والدين الإسلامي على وجه الخصوص بحسبان أنه دين الأغلبية، تعلى من شأن مفاهيم العدالة والمساءلة والمساواة في الحقوق والواجبات في ظل منظومة فكرية وقيمية تهدف لبناء دولة قومية حديثة تحقق هذه المقاصد الكلية في إطار نظام ديموقراطى، تعددى مستدام.

أيضاً استند هذا المشروع على محورين متلازمين في مجالى السياسة والاقتصاد. لقد أدرك السيد الصادق منذ ذلك الزمان الباكر محدودية الديموقراطية الانتخابية في المجتمعات التقليدية، المتخلفة اقتصادياً كما هو حال البلاد في ذلك الزمان وما يزال، للأسف. لهذا تقدم برؤية متكاملة لإصلاح وتقوية النظام الإئتلافى الحاكم عن طريق مصالحة وطنية تحقق إجماعاً عريضاً حول القضايا الوطنية الجامعة، مثل أسس بناء السلام وحل قضية جنوب السودان، مما يمكن معه كتابة دستور دائم؛ ومشاركة واسعة في حكومة قومية تحظى بسند شعبى قوى، فى ظل رقابة وازنة من قبل مؤسسة تشريعية قوية؛ بالإضافة إلى بناء جيش مهنىى يخضع للسلطة المدنية المنتخبة. الشق الاقتصادى من المشروع كان يهدف إلى تحقيق ما يمكن تسميته ب”الشرعية الاقتصادية”، والتي أولاها الرئيس الشاب وقتها اهتماماً كبيراً، بالنظر لتدريبه العلمى واطلاعه الواسع على علوم الزراعة والاقتصاد والسياسة.

نستعرض أدناه باختصار مكونات المشروع الوطنى للسيد الصادق المهدى وكذلك نهجه في إدارة الدولة والإنجازات التي تحققت في إطار المبادرات والبرامج التي أعتمدتها حكومته. فى المقال القادم، ننتقل من السردية التاريخية والاقتباس من المصادر المتاحة إلى التأمل في مشروعه، كحاكم ومفكر شاب، والدروس والدلالات المترتبة عليه لبناء ديموقراطية مستدامة وتحولات اقتصادية كبرى في مجتمع يسعى لاخماد فتنة ماحقة تشكل تهديداً وجودياً لنسيجه الاجتماعى ووحدته الترابية.

السيد الصادق المهدى ومشروعه الوطنى:

لقد طور السيد الصادق مشروعه الوطنى للمصالحة الوطنية كتمهيد لتوسيع قاعدة الحكم وتعزيز الائتلاف الحاكم منذ عهد نظام عبود عندما كان لايزال في العشرينيات من عمره. لقد قدم أطروحة قوية، مفادها أن معظم جيل قادة الاستقلال في السودان وغيرها من البلاد المستقلة حديثاً كان يحدوهم تفاؤلاً غيرَ مبرر بأن أنظمة الحكم الموروثة من المستعمر ستظل كافيةً لبناء المشروع الوطنى. إلا أن السيد الصادق قد قطع بأن مؤسسات الحكم هذه غير مكتملة، مما يلزم معالجة عدة مشاكل عديدة، تشمل على سبيل المثال إكمال بناء مؤسسات الدولة وشمولها الجغرافى في كل أنحاء القطر لإنجاز هدف “التحديث” وقد أشار لهذا المفهوم باللغة الإنجليزية “modernization”(1).

ما ذهب إليه السيد الصادق في تلك المرحلة الباكرة من عمره يشى بإلمام عميق بأدبيات السياسة والاقتصاد في مجالات الانتقال الديموقراطى والتنمية. فقد راجت في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضى ما سمى بفرضية التحديث التي قدمها أستاذ العلوم السياسية بجامعة أُكسفورد سيمور ليبسيت (1959)(2) ، والتي تحتل مكانًا رئيساً في هذه الأدبيات. ببساطة، تقول فرضية التحديث أن التطور الاقتصادى شرطٌ لازمٌ لاستدامة الديمقراطية، لأنه ضرورياً لتوسع الطبقة الوسطى بحيث يصبح الهيكل الاجتماعي معقداً، في ظل إنتاجية عالية وتقدماً تكنولوجياً، الأمر الذى يعزز مكانة المنتجين في المجتمع ويقوى المجتمع المدني أيضاً، وبالتالي تصبح الأنظمة الديكتاتورية أقل فعالية في ضبط المجتمعات وبالتالي غير قادرة للحفاظ على حكمها(3).

هذا يقودنا لمشكلة أخرى ذات علاقة، حيث أشار إلى إشكالية قصور المؤسسات الاستعمارية عن تحقيق نمو عريض القاعدة، يحقق العدالة الاجتماعية. تماماً كما ذهب اليه السيد الصادق، فقد أفادت هذه الأدبيات بأن الإرث الاستعماري قد أوجد في الكثير من المستعمرات السابقة منظومة مؤسسات وسياسات اقتصادية غير قادرة على إحداث تحولات اقتصادية للإقلال من التفاوت التنموى على المستوى الأفقى الأقليمى والهويوى. ففي السياق الأفريقي يعتبر الإرث الإستعمارى ذو تأثير تاريخي هام في عملية التطور طويل الأمد للمؤسسات(4). وقد ثبت ان القوى الاستعمارية أقامت المؤسسات الداعمة للتنمية المستدامة فى المستعمرات الإستيطانية، كما الحال فى أمريكا الشمالية وأستراليا، وجنوب أفريقيا بينما اختارت بناء مؤسسات “استخراجية” فقط ((extractive institutions فى المستعمرات الأخرى كما فى حالة السودان وكثيرٍ من الدول الأفريقية(5).

مشكلة أخرى هامة عالجها السيد الصادق هي قصور النظام البرلماني الانتخابى عن استيعاب قوى مجتمعية جديدة وهامة، مثل اتحادات العمال والطلاب والمهنيين وغيرها من منظمات المجتمع المدنى، حيث قطع بأن، “هذه المنظمات لديها تقاليد وأوضاع معينة في الوطن الذي نقلنا منه نظامنا ولكنها نقلت بغير تقاليدها ونظمها ومحتاجة لتقاليد ولأوضاع ولمعاملات جديدة وهذه أيضا تنوء بكاهل القيادة السياسية بعد الاستقلال وتتركها في شيء من الخلاف والانقسام”. كذلك، أشار في هذا السياق إلى أن “نخبة المثقفين تشعر بنوع من العزلة نحو السواد الأعظم من المواطنين الذين ينضوون تحت لواء منظمات تقليدية قبلية وخلافها، وهذا يؤدى لانشطارات وانقسامات ومشاكل”. هذه القضية بالغة الأهمية بالنسبة لتماسك النظام الديموقراطى وذلك لأن أحزاب النخبة اليسارية والدينية على حدٍ سواء قد عمدت إلى توظيف هذه الاتحادات والمنظمات ضد الحكومات الائتلافية التي تشعر بأنها لا تمثلها، مما أدى لزعزعة استقرار الديموقراطية البرلمانية في البلاد.

تحدث أيضاً عن إشكالية السيطرة على القوات المسلحة وضرورة خضوعها للسلطة المدنية المنتخبة، وهى قضية بالغة الخطورة وشكلت ومازالت تحدياً كبيراً للنظم الديموقراطية في السودان وغيره من البلدان النامية، حديثة الاستقلال. وكل هذه المشاكل وغيرها مما أورده السيد الصادق، قد اضعفت شرعية الحكومات الديموقراطية المتعاقبة، خاصة أن قصر مدة حكمها وتنازع الرؤى بين أطراف ائتلافاتها لم يمكن معه الاتفاق على دستور دائم للبلاد.

السيد الصادق المهدى – نهجه وإنجازات حكمه:

على صعيد الإنجازات فقد احتوى خطاب السيد رئيس الوزراء أمام الجمعية التأسيسية في 15 مايو 1967 عند نهاية حكومته سجلاً حافلاً من المبادرات والإنجازات وكذلك وثقت الأستاذة رباح الصادق في الجزء الأول من سلسة “سيرة ومسيرة”(6) لهذه الحقبة الباذخة من الفكر والمبادرات والبرامج التي أُنجزت والإصلاح الهيكلى والمؤسسى الذى تم إنفاذه بواسطة هذه الحكومة، والتى نذكر بعضها أدناه، مشفوعة بشهادات بعض المعاصرين كما وردت في هذا الكتاب.

أولاً، المصالحة الوطنية: مبادرة لتوسيع قاعدة الحكم عبر حكومة قومية تستوعب الأحزاب كافة، ووضع قضية الجنوب في صدارة الأجندة عبر لجنة الاثني عشر ومؤتمر المائدة المستديرة، وإقرار مبدأ الحكم الإقليمي للجنوب، وبناء تحالف استراتيجي مع حزب سانو بقيادة وليم دينق.

ثانياً، النهج البرلماني والشفافية: التزام بخضوع الحكومة للجمعية التأسيسية ومساءلتها، واعتماد نهج مؤسسي في إعداد الميزانية.

ثالثاً، الاقتصاد والتنمية والحكم المحلى: اعتماد اللامركزية الادارية فى كل البلاد وتأسيس جهاز قومي للتخطيط له فروع في الأقاليم، إصلاح المالية العامة، سودنة المصارف والتجارة الخارجية والتعليم، وإطلاق مؤتمرات أركويت العلمية للتخطيط القطاعي.

رابعاً، التعليم والثقافة: التصديق على جامعة الأحفاد ككلية جامعية، إنشاء المركز الإسلامي الأفريقي، ووضع سياسة إعلامية جديدة.

خامساً، الطاقة والموارد: دعوة شركات أجنبية للتنقيب عن النفط والغاز في البحر الأحمر.

شهادات المعاصرين:

السيد/ عز الدين السيد (وزير اتحادي): أشار إلى قرارات التصديق على جامعة الأحفاد والمركز الإسلامي الأفريقي، وبداية التنقيب عن النفط، وإحياء مؤتمرات أركويت. كما اعتبر إن تعيين رئيس الوزراء وزير مالية مستقل من خارج حزبه دليلاً على نقاء الشباب والروح القومية.

السيد/ أمين التوم (قيادي بحزب الأمة): أكد أن الحكومة أنهت التدهور المالي وأرست قواعد مؤسسية للميزانية، وأنجزت سياسات كبرى مثل سودنة المصارف والتعليم والتجارة الخارجية.

بروفيسور محمد عمر بشير: أشاد بجدية الحكومة في وضع دستور جديد وتنظيم الانتخابات التكميلية في الجنوب، ورأى أنها أرست الأساس لاتفاقية أديس أبابا 1972.

دكتور سيد أحمد نقد الله: وصف الحكومة بأنها “أنجح حكومة في تاريخ السودان”.

الأستاذ/ حسن ساتي: أكد نجاح الصادق في استقطاب أصوات واسعة خارج حزبه.

خاتمة:

تناولت فى هذا المقال تجربة الإمام الصادق المهدي في رئاسته الأولى للحكومة السودانية (يوليو 1966 – مايو 1967)، مُبيِّناً أنها كانت رغم قصر مدتها تجربة مفصلية اتسمت بمشروع وطني نهضوي يستوعب التنوع السوداني ويسعى لبناء دولة حديثة عادلة. ارتكز المشروع على محورين أساسيين: السياسة عبر المصالحة الوطنية، توسيع قاعدة الحكم، معالجة قضية الجنوب سلمياً، وبناء جيش مهني يخضع للسلطة المدنية؛ والاقتصاد عبر إرساء ما يمكن وصفه ب“الشرعية الاقتصادية” من خلال إصلاح المالية العامة، تأسيس جهاز قومي للتخطيط، سودنة المصارف والتجارة، وتطوير التعليم. كما عكست التجربة التزاماً بالشفافية والمساءلة أمام البرلمان، وشهدت إنجازات بارزة مثل إنشاء جامعة الأحفاد، التصديق على المركز الإسلامي الأفريقي، وإطلاق التنقيب عن النفط. وقد أشاد معاصرون كثر بإنجازاتها، واعتبر بعضهم أنها من أنجح الحكومات في تاريخ السودان.

تخلص الورقة إلى أن رئاسة الصادق المهدي الأولى مثلت فرصة تاريخية ضائعة لتأسيس توازن سياسي واجتماعي جديد يقوم على المصالحة الوطنية والتنمية الشاملة. غير أن ضيق أفق النخب التقليدية، وقصر عمر التجربة، حالا دون ترسيخ هذا المشروع. ومع ذلك، فقد شكلت تلك التجربة إرثاً فكرياً وسياسياً مهماً، وأرست اللبنات الأولى لمسار وطني كان يمكن أن يُجَنِّب السودان دورات الانقلابات والحروب اللاحقة. إن استدعاء تلك الدروس اليوم يظل ضرورة ملحة لبناء مشروع قومي جامع يحقق السلام المدني والديمقراطية المستدامة. نتابع هذا الموضوع فى المقال القادم بإذن الله.

____________________________________________________________

ندوة السيد الصادق عن المصالحة الوطنية بدار الثقافة بالخرطوم اليوم الثالث من شهر أكتوبر 1966م.

Lipset, Seymour (1959), ‘Some Social Pre-requisites of Democracy: and Economic Development and Political Legitimacy’, American Political Science Review, 53.

Barro, Robert (2015), “Convergence and Modernization”, Economic Journal, Volume 125, Issue 585, pp. 911-942, June

Mahmoud Mamdani (1996). Citizen and Subject: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism. Princeton University Press, Princeton.

أنظر إبراهيم البدوى (2015). ” السودان وأزمة الاقتصاد والتنمية: نحو رؤية تنموية عادلة ومستدامة”، نٌشرت فى كتاب حيدر أبراهيم وآخرون. ستون عاما من استقلال السودان.

راجع كتاب رباح الصادق (2019). الإمام الصادق المهدى: سيرة ومسيرة – بينج ما ريال. الجزء الأول، النسخة الثانية، صالون الإبداع للتنمية والثقافة.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.