وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب..”البعد البرامجى لمشروع الإمام الصادق المهدى”

نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى

المقال الثالث – البعد البرامجى لمشروع الإمام الصادق المهدى

بقلم: البروفيسور إبراهيم أحمد البدوي، وزير المالية والتخطيط الاقتصادى الأسبق ،والمدير التنفيذي، منتدى دراسات وابحاث التنمية

“… ولا أزعم أن كتاباتى منزلة بل هى اجتهادات من شأنها أن تخاطب أجيالاً واجبنا نحوها أن نخاطبها وقد تكون حافزاً لآخرين وف ذلك فليتنافس المتنافسون” (من كتاب يسألونك: كبسولات متنوعة، الإمام الصادق المهدي”

لقد قدم الإمام الصادق المهدي مشروعاً فكرياً تأسيسياً جامعاً، سبر فيه أغواراً عميقة فى مختلف حلقات انتمائنا الاسلامى، العربى-الأفريقى والانسانى، من منظور يسعى للتوفيق بين الأصالة والحداثة، بين الشرعية الدينية والدستورية، وبين الاستحقاقات الوطنية والالتزامات الدولية. فقد ألف الإمام ما يناهز المائة وعشرون اصداراً، تراوحت بين أسفارٍ ضخمةٍ مثل كتابه الموسوم “الدين والفلسفة” وكتباً وكتيبات عالجت قضايا: التأصيل والتجديد، حيث سعى الإمام إلى بناء مشروع يوفق بين قيم الإسلام ومبادئ الحداثة، فانتقد نموذج “الدولة الإسلامية” المؤدلجة، وطرح بديلاً عنها رؤية دستورية ديمقراطية مستلهمة من روح الإسلام؛ العقد الاجتماعي، مبلوراً فكرة عقد اجتماعي إسلامي تقدمي يحقق التوازن بين الحرية الفردية، العدالة الاجتماعية، والشرعية السياسية؛ الدين والسياسة، مؤكداً على ضرورة الفصل الوظيفي بين الدعوة الدينية والعمل السياسي مع التكامل في القيم، بما يضمن عدم استغلال الدين لأغراض سلطوية؛ والاجتهاد والتعددية، حيث شدّد على الاجتهاد المستنير، واحترام التعددية المذهبية والفكرية، ورفض الإقصاء الديني أو الأيديولوجي.

أكثر من ذلك، فإن مساهمات الإمام لم تقتصر على المعاقد الفكرية التأسيسة الكبرى، على أهميتها، فقد كان له أيضاً مشروعاً برامجياً وازناً فى قضايا السياسة والاقتصاد وغيرها من الشئون العامة. لقد كان الإمام كزعيمٍ وطنىٍ صميم حاضراً فى كل ساحات العمل الوطنى، حيث تواصل عطاؤه الفكرى حتى وهو متقلباً فى سجون النُظُم الشمولية المتعاقبة والتى أمضى فيها أكثر من ثمانى سنوات من سنى مسيرته الحافلة بالتضحية والعطاء.

 

وقد شملت مساهماته البرامجية:

الديمقراطية والدستور: داعياً الى تطوير النظام الديمقراطي البرلماني الى مشروع وطنى لا يقوم فقط على التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، وسيادة حكم القانون فحسب، بل يحتوى على مشروع برامجى نهضوى يحظى بقبول واسع، بحسبان أنه الرافع الأهم لبناء الطبقة الوسطى واستدامة الديمقراطية.

السلام والوحدة الوطنية : ركّز على معالجة جذور الحرب الأهلية في السودان عبر الحوار الشامل والتنمية المتوازنة، ونادى بمشروع وطني يتجاوز الانقسامات الجهوية والعرقية، داعياً الى ميثاق تعايُش وطني (عقد اجتماعي جديد) يضمن المشاركة واللامركزية والسلام الأهلي.

حقوق الإنسان: تبنّى خطاباً حقوقياً يستند إلى المواثيق الدولية والقيم الإسلامية، وأكد على حماية الحريات العامة، وحقوق المرأة، والشباب، داعياً الى صياغة نصٍّ دستوريٍ على أساس المواطنة والحقوق بلا تمييز، وبابٍ للحريات الدينية والفكرية، مع تحكيم المواثيق الدولية في تفسير الحقوق(1).

التنمية والعدالة الاجتماعية: طرح رؤى للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي توازن بين آليات السوق ودور الدولة في تقديم الحماية الاجتماعية الشاملة (universal social protection).

العلاقات الخارجية: تبنى سياسة “الوسطية” في الانتماء العربي والإفريقي والإسلامي، مع الانفتاح على النظام الدولي، بما يحفظ استقلال القرار الوطني.

نستعرض فيما يلى “نموذج اقتصادى جديد للتنمية” طرحه الإمام بعد ثورة ديسمبر المجيدة ونشره فى كتابه الموسوم: يسألونك: كبسولات متنوعة(2).

أولاً، الفلسفة العامة للنموذج التنموى:

يرى الإمام أن نجاح التجربة السودانية مرهون بربط الإصلاح السياسي والديمقراطية التوافقية مع النموذج الاقتصادي الرأسمالي الاجتماعي التكافلي بما يحقق دولة الرعاية الاجتماعية. ويؤكد أن السودان يملك فرصة تاريخية للنهضة مستفيداً من ثورة ديسمبر، وموارده الهائلة، وموقعه الاستراتيجي، شريطة توفر إرادة وطنية واعية تلتزم بهذا النموذج. فى هذا السياق، فإن مفهوم التنمية عند الإمام يتعدى النمو الاقتصادي وزيادة الناتج المحلي – رغم أنهما يظلان الرافع الأبرز فى العملية التنموية – ليشمل العدالة الاجتماعية، الحقوق السياسية والثقافية، وحماية البيئة. أهم ملامح هذا النموذج: العدالة في التوزيع، الشراكة في القرار الاقتصادي، الربط بين الديمقراطية السياسية والاقتصادية، إدخال مقاييس حقوق الإنسان، الحوكمة الرشيدة، والتأصيل الإسلامي المتجدد. ويستند النموذج المنشود على مبادئ جوهرية، نذكر منها:

اعتماد رأسمالية اجتماعية تكافلية.

دمج الزكاة في السياسات العامة لمحاربة الفقر.

إعادة تعريف الفائدة المصرفية باعتبارها وسيلة لتعويض التضخم وتشجيع الاستثمار.

تعزيز مبادئ إسلامية ذات بعد اقتصادي: التعمير،التثمير، الكفاية، العدالة.

اعتبار حماية البيئة واستدامة الموارد جزءاً من حقوق الإنسان.

ثانياً، التحديات الاقتصادية، الأدوات السياسوية ومرتكزات التنمية الأساسية:

كان الإمام مدركاً لفداحة التركة الاقتصادية لنظام الانقاذ البائد التى ورثتها حكومة الثورة الانتقالية، منوهاً لضعف الإيرادات العامة، مشيراً إلى أن نسبة حصائل الضرائب للناتج المحلى لا تتجاوز 6%، مقارنة بالمتوسط لأفريقيا الذى بلغ 13%. بالمقابل، تحدث عن تضخم المصروفات وتفاقم عجز الموازنة بسبب الإنفاق الدفاعي والأمني والدعم السلعي والفساد. كذلك أوضح أن الميزان الخارجى قد شهد تدهوراً مريعاً جراء ضعف تنافسية الصادرات السودانية و تهريب الذهب وغياب الثقة في النظام المصرفي، والعقوبات والعزلة الدولية التي منعت السودان من الاستفادة من برامج إعفاء الديون.

لمعالجة هذا الوضع الكارثى، دعا الإمام الى انعقاد مؤتمرٍ اقتصاديٍ قوميٍ لإقرار المبادئ وخطة إسعافية عاجلة، تشمل إصلاحات عاجلة في السنة الأولى: تغيير العملة، ترشيد الدعم السلعي، زيادة الإيرادات عبر ضرائب عادلة، إنشاء بورصة للذهب، تصفية شركات التمكين، إصلاح المصارف وقوانين الاستثمار، إعادة تشغيل المصانع، رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وتعبئة مساهمة المهجر. أيضاً، دعا إلى مناقشة وإقرار خطة ثلاثية (للفترة الانتقالية) لإصدار دليل استثماري في مجالات الزراعة، الصناعة، التعدين، الطاقة، البنية التحتية، النقل، المواصلات، المياه، الخدمات الاجتماعية، البيئة، السياحة.

كذلك دعا الإمام إلى تمويل التنمية عبر الموارد الوطنية المستردة، مساهمة المهجر، شراكات عربية وأفريقية، شراكات آسيوية، والدعم الدولي، محدداً سبعة مرتكزات أساسية للتنمية، تشمل:

الزراعة والثروة الحيوانية: الذهب الأخضر والذهب الأحمر.

التعدين: شراكات استراتيجية مع اليابان، الصين، ودول أخرى.

الطاقة: استغلال الشمس والرياح والإيثانول.

المياه: إنشاء إدارة قومية لتوظيف الموارد المائية.

الخدمات الاجتماعية: مجانية التعليم والصحة، نشر المعرفة، إزالة التهميش.

البيئة: تخضير السودان والمشاركة في مكافحة التغير المناخي.

السياحة: تطوير المواقع الأثرية والتاريخية.

ثالثاً، المجلس الاستراتيجي الأعلى للتنمية الشاملة العادلة:

لمأسسة انفاذ القضايا المتفق عليها، اقترح الإمام أن يصار إلى إنشاء المجلس الاستراتيجي الأعلى للتنمية، بعد المؤتمر الاقتصادي القومي مباشرة، ليكون المرجعية التنفيذية لمخرجات المؤتمر، وتُسند اليه المهام التالية على مستوى التخطيط الاستراتيجى:

وضع خطة التنمية لمدد قصيرة ومتوسطة وطويلة، إصدار دليل استثماري للسودان يوضح الموارد في المجالات الرئيسة الآنفة الذكر.

الاشراف على تكوين عدة مجالسَ قطاعيةً متخصصة لمتابعة التنفيذ.

وقد أوضح الإمام أن الهدف من إنشاء هذا المجلس هو توجيه الاستثمارات وضمان الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر وتحقيق الأمن الغذائي.

خاتمة:

كما أبنا فى هذا المقال، فإن مشروع الإمام الصادق المهدي لم يكن مجرد اجتهاداً فكرياً محضاً في قضايا الهوية والعقد الاجتماعي، بل امتد ليشكل برنامجاً متكاملاً للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لقد جمع بين الفكر والبرامج، بين الشرعية الدينية والدستورية، وبين استحقاقات الداخل والتزامات الخارج، في رؤية تسعى لبناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة قادرة على استنهاض موارد السودان ومواجهة تحدياته التاريخية. إن هذه الرؤية تظل مرجعاً حيوياً لأي جهد وطني يسعى لإعادة تأسيس الدولة السودانية على أسس جديدة بعد الحرب والدمار الذى ألحقته هذه الحرب بالسودان وأهله.

فى الختام، يمكن تلخيص المشروع فى سياق ثلاثة مرتكزات محورية وردت فى نموذج الإمام المقترح:

أولاً، النظام السياسي الجديد: ديمقراطية توافقية تحد من عيوب التنافسية المطلقة، نظام رئاسي قوي (أمريكي/فرنسي)، مع التزام بحقوق الإنسان، الشفافية، المشاركة والمساءلة.

ثانياً، النظام الاقتصادي الجديد: رأسمالية اجتماعية تكافلية توازن بين الحرية الاقتصادية ودولة الرعاية الاجتماعية، والشراكة بين القطاعين العام والخاص والنقابات.

ثالثاً، البدائل المرفوضة: المشروع المدني الإخواني والخيار العسكري، وكلاهما فشل في السودان. الاستقرار مرهون بالديمقراطية الرشيدة والنموذج الاقتصادي العادل.

فى المقال القادم سأستعرض، بإذن الله، تجربة الإمام فى رئاسته الأولى فى ستينيات القرن الماضى والدروس والعبر الهامة التى أتمنى على الأجيال الصاعدة من شباب السودان – بعد أن يسترد بعون الله أهل السودان بلادهم – أتمنى عليهم دراستها والتأمل فيها بجدية واهتمام.

_________________________________________

الصادق المهدي. 2020.” مبادرة الأمة للتعاهد الوطنى”:أنظر الرابط: الإمام الصادق المهدي.

الصادق المهدي. 2020. “يسألونك عن الدين والدولة” كتاب يسألونك: كبسولات متنوعة. (جمعتها وحققتها رباح الصادق). صالون الابداع للثقاقة والتنمية، أم درمان: (جزيرة الورد، الطبعة الأولى، القاهرة.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.