وزير المالية السابق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. لماذا الحاجة الى “عملية أممية متعددة الأبعاد”
نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى
المقال العاشر : لماذا الحاجة الى “عملية أممية متعددة الأبعاد”
بقلم: بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي ،وزير المالية والتخطيط الاقتصادى السابق ،المدير التنفيذي، منتدى الدراسات والبحوث الإنمائية
فى هذا المقال والمقالات التى تليه سأتحث عن بعض العناصر الرئيسة لمشروع وطني سوداني لبناء السلام والانتقال المدنى الديمقراطى النهضوى، بناءً على ثلاثة افتراضات أساسية مستقاه من تجارب وتحديات تجربة البناء الوطنى السودانى وكذلك الدروس والعِبر المستفادة من تراث التحولات النهضوية الكبرى للأمم الناجحة:
اتفاقيات الشراكة المدنية العسكرية عقب الثورات والانتفاضات وكذلك تقاسم السلطة مع حركات المعارضة المسلحة كنهج لبناء السلام قد أفرزت نتائجاً كارثية وأعاقت مشروع البناء الوطنى.
أى مشروع يُعتد به لبناء السلام والانتقال المدني السلمي الديمقراطي النهضوي يستدعى التوافق الوطنى الواسع على عقد اجتماعي واضح المعالم، ذو سردية وطنية قوية
فى سياق وتحت سقف المشروع الوطنى، يظل الدعم الخارجى الدولى والاقليمى، خاصة الأُممى منه، رافعاً ضرورياً لانهاء الحرب الحالية وإرساء سلام مستدام، كما هو الحال فى معظم الحروب الأهلية فى العالم،نظراً لضعف القدرات المحلية وتآكل رأس المال الاجتماعي جراء هذه الحروب.
غنى عن القول أن الأجندة الوطنية لاستعادة السودان التى يتضمنها العقد الاجتماعى المنشود، أياً كان ذلك العقد، لابد أن ترتكز على بناء جبهة وطنية عريضة تحدوها رؤية مشتركة لتحقيق خيار الشعب في الحرية والسلام والعدالة (الشعار الأيقوني لثورة ديسمبر في السودان).
أولاً، ما الذي يعنيه النهج “التشاركي” لبناء السلام بالنسبة لمبادرات انهاء الحرب؟
كانت كل اتفاقيات تقاسم السلطة السابقة فى ظل الأنظمة الشمولية التى حكمت البلاد وبالاً على المشروع الوطنى السودانى، حيث لم تفشل في بناء السلام فحسب، بل أدت إلى اعادة انتاج حروبٍ أهليةٍ أشد ضراوةٍ وفظاعة. على سبيل المثال، أدى “اتفاق السلام الشامل” بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ونظام الإنقاذ في عام 2005 إلى تقسيم البلاد في نهاية المطاف، بينما أدت اتفاقيات سلام دارفور الى تناسل الحركات المسلحة وممارسة العنف الضار كوسيلة حصرية للمشاركة فى السلطة وسوق المال السياسى لمنظومة التمكين الانقاذية الفاسدة. أما تجربة الشراكة المدنية -العسكرية خلال الفترة الانتقالية لثورة ديسمبر فقد كانت أكثر ايلاماً، خاصة بعد ابرام اتفاقية سلام جوبا والتى كما اشرنا فى مقالٍ سابقٍ قد كانت بمثابة “حصان طروادة” لمشروع الردة الشمولية.
كما تبين بجلاء فان هذا الاتفاق لم يكن عملية سلام واسعة النطاق من شأنها تمكين المجتمع المدني في المناطق المتأثرة بالنزاعات، بل كان اتفاقاً شمولياً بين قيادة المؤسسة العسكرية وما سُمى وقتها بحركات “الكفاح المسلح”.
وعلى هذا النحو، أعاقت هذه الاتفاقية المسار الدستوري نحو الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر، وأفضت الى الحرب العسكرية-الأهلية الحالية. كان الخلل في هذه الاتفاقيات، والذي ساهم في فشلها، هو تهميش المجتمع المدنى بصورة عامة ومجتمع الهامش على وجه الخصوص، واقتصارها على النخب العسكرية والجيوش المتحاربة تحت قيادتها.
إن المغزى من قصة بناء السلام في السودان هو أن إنهاء الحروب وإعادة بناء السلام يجب أن تكون عملية “تشاركية” يكون المجتمع المدني السوداني والقوى الديمقراطية المدنية في قلبها. وبالنظر إلى الإرث الديمقراطي الغني للسودان، وإن أعاقته الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية مراراً، فإن توفير مساحة وصوت لأصحاب المصلحة المدنيين سيكون رافعة مهمة لبناء السلام الديمقراطي المدني. وفي هذا السياق، أعلن رعاة السلام فى مراحله الأولى (كما فى منبرى جدة والمنامة) ثلاث مراحل لعملية السلام، تبدأ بوقف إطلاق النار والفصل بين القوات، ثم فتح ممرات الإغاثة والمساعدات الإنسانية، وأخيراً الترتيبات الانتقالية وإصلاح المنظومة العسكرية الأمنية. والآن مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية وقيادتها لملف انهاء الحرب، انتعشت الآمال حول قرب نهاية الحر ب واستشراف آفاق بناء السلام. ومع ذلك، فإن نجاح جهود السلام أياً كانت الروافع الخارجية يتطلب فعلاً وطنياً قوياً من القوى المدنية الديمقراطية يؤمن مشاركة ذات مغزىً لأصحاب المصلحة المدنيين، مثل الأحزاب السياسية والجمعيات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية، والتي يمكن أن تكون روافع مهمة لنجاح عملية السلام:
يمكن للقوى المدنية ذات المصداقية، كطرف ثالث يقف على مسافة واحدة من طرفي الحرب العسكريين، أن تساعد في ردم الهوة الهائلة بين طرفي الحرب وتخفيف حدة العداء بينهما
يمكن للقوى المدنية الديمقراطية، كطرف فاعل في مبادرات السلام، أن تدفع باتجاه تبني مفهوم ونهج للإصلاح العسكري والأمني وفق المعايير الدولية لبناء جيش وطني وقوات نظامية محترفة تحت إشراف سلطة انتقالية مدنية وإنهاء عسكرة السياسة والاقتصاد.
إن مشاركة القوى المدنية ستعزز اعتماد “المؤتمر القومى للسلام” كمنصة لبناء السلام وتأسيس منظومة متينة للعدالة الانتقالية كبديل لاتفاقيات تقاسم السلطة والمحاصصة العسكرية الفئوية ونهج الافلات من العقاب والمساءلة، وبالتالي قطع الطريق أمام أي ترتيبات محتملة تعيد البلاد إلى إرث الصفقات الشمولية وآثارها الكارثية.
ثانياً، لكن لماذا لا تزال هناك حاجة إلى عملية أممية متعددة الأبعاد لحفظ وبناء السلام فى السودان؟
تشير أحدى الأدبيات واسعة القبول فى مجتمع خبراء بناء السلام الى أن احتمالية بناء السلام تتناسب طردياً مع مساحة “مثلث السلام”: الذى تتشكل أضلاعه من متانة مؤسسات الدولة؛ وقوة النسيج الاجتماعى بعد الحرب؛ اضافة الى دعم المجتمع الدولى المؤسسى والتمويلى لمشروع بناء السلام. عليه، من أهم واجبات القوى السياسية وقوى المجتمع المدني السودانية أن تتصدى لتحدي “رتق” النسيج الاجتماعى الذي دمرته الحرب واعادة بناء القدرات المؤسسية المستنفدة، بل وتكاد تكون معدومة – اللذان يشكلان ضلعي المثلث على المستوى الوطنى. ومع ذلك، وبالنظر إلى التشرذم المروع للنسيج الاجتماعي والانشقاقات الهوياتية غير المسبوقة، فضلاً عن المصالح الفئوية الريعية الاقتصادية المتجذرة لأطراف النزاع وارتباطها بعسكرة السياسة والاقتصاد، فإن جهود بناء السلام لن تكون سهلة حتى مع وجود جبهة وطنية قوية وإرادة إقليمية قوية. لذا، نعتقد أن تأمين فرصة حقيقية للسلام قد يتطلب النظر في تدعيم المبادرات الإقليمية الحالية بمشاركة فعالة من الأمم المتحدة، بحيث يتم استكمال الضلع الثالث من مثلث السلام بعملية حفظ سلام تحويلية متعددة الأبعاد بقيادة الأمم المتحدة وبمشاركة إقليمية، خاصة من قبل الاتحاد الأفريقى.
ما هى عمليات حفظ السلام المتعددة الأبعاد :(Multi-dimensional Peacekeeping Operations)
فى المقام الأول تنشأ هذه البعثات لدعم السلطات الوطنية الانتقالية فى الدول الخارجة من الحروب الأهلية وبطلب منها. وهي بعثات معقدة تابعة للأمم المتحدة تتجاوز مهام حفظ السلام التقليدية من خلال دمج مجموعة واسعة من المهام لمواجهة التحديات المتعددة الأوجه للنزاعات وهشاشة الدول. ولا تشمل هذه العمليات حفظ السلام والأمن فحسب، بل تشمل أيضًا تيسير العمليات السياسية، والمساعدة في نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (Disarmament, Demobilization and Reintegration: DDR) ، وحماية المدنيين، ودعم الانتخابات، وتعزيز حقوق الإنسان، واستعادة سيادة القانون.
أيضاً، هناك تركيزاً متزايداً على عدم الاكتفاء بالتعاون مع السلطة المركزية فقط وضمان ملكية المجتمعات المحلية لعملية بناء السلام من أجل تعزيز السلام المستدام. كذلك أكتسيت هذه العمليات خبرات من التجارب السابقة ساهمت فى قدرتها على التكيف مع التحديات الجديدة والسياقات المتغيرة. تحديداً، تشمل السمات الرئيسية لعمليات حفظ السلام المتعددة الأبعاد:
النهج الشامل: تتصدى هذه العمليات للأسباب الجذرية للنزاعات والهشاشة من خلال شمولها الأبعاد السياسية والأمنية والإنسانية وحقوق الإنسان والتنمية.
التفويض الموسع: على عكس عمليات حفظ السلام التقليدية التي تركز على مراقبة وقف إطلاق النار، تشمل ولايات هذه العمليات مهام مثل تقديم المساعدات الإنسانية وإعادة اللاجئين إلى أوطانهم وعمليات نزع السلاح وتسريح الأفراد وإعادة تأهيلهم ومساعدة الانتخابات وتدريب الشرطة.
حماية المدنيين: يعد حماية المدنيين جانباً بالغ الأهمية، وغالباً ما ينطوي على تحييد التهديدات، ومصادرة الأسلحة، والرد على الهجمات.
دعم عمليات الانتقال: غالباً ما تدعم هذه العمليات الانتقال من النزاع إلى السلام من خلال المساعدة في إقامة المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون والحكم الرشيد.
عليه، نزعم بأن عملية أممية بهذه المتانة، تعمل تحت سقف مشروع وطنى وازن، سوف لن تساعد في فرض السلام والحفاظ عليه فحسب، بل ستمكن أصحاب المصلحة المدنيين والعسكريين السودانيين من تبني وتنفيذ منظومة عدلية من أجل تحقيق العدالة الانتقالية وكذلك تصميم إصلاح أمنى عميق واعادة هيكلة جذرية لإعادة بناء قوات مسلحة موحدة، غير مسيسة ومهنية ومتحررة تماماً من المصالح التجارية أو أي شكل من أشكال المصالح الاقتصادية. لقد أفادت تجارب الدول الخارجة من الحروب الأهلية بأهمية الدور المحورى لبعثات الأمم المتحدة فى بناء السلام ووثقتها دراسات دقيقة لعمليات بناء السلام منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الوقت الحاضر.
ثالثاً، المبادرات الوطنية تجاه الأمم المتحدة:
تجدر الإشارة إلى أن هناك مبادرات وطنية تدعو إلى تبني طلب إلى الأمم المتحدة لدعم مشروع إنهاء الحرب وبناء السلام. على سبيل المثال، في بيانهم الصادر في 16 نوفمبر 2023، في العاصمة المصرية القاهرة، دعت حركة “خبراء سودانيون ضد الحرب” إلى إنشاء “جبهة وطنية لوقف الحرب”، مؤكدين على أن “كل أجهزة الدولة ومؤسساتها المعنية بالعدالة وإنفاذ القانون إما أنها تآكلت أو أصبحت طرفاً فاعلاً في الحرب مما يجعلها عاجزة عن تحقيق الأمن وعاجزة عن تحقيق القانون والنظام”. وإدراكاً لهذه الحقائق، أكد المجتمعون أن تحقيق السلام الدائم واستدامة الأمن وفرض الاستقرار والعدالة يتطلب من الشرعية الدولية ممثلة في الأمم المتحدة وميثاقها دعم الشعب السوداني وتمكينه من ممارسة حقه المشروع في الحفاظ على سلامة ترابه الوطني وصون استقلاله وممارسة سيادته الوطنية دون تفريط أو انتقاص، وأن السودان يستحق هذا التضامن من الشرعية الدولية من أجل السلام والعدالة.
أيضاً، في رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 18 أكتوبر 2023، دعت مجموعة سودانية تضم 16 حزباً سياسياً ونقابياً وقوى مدنية مجلس الأمن إلى “الشروع فوراً في إنشاء عملية شاملة للأمم المتحدة لدعم السلام المستدام لفرض السلام والأمن في جميع أنحاء السودان وأن يبقي المجلس المسألة قيد النظر الفعلي لضمان امتثال أطراف الحرب لطلبات المجلس بشأن التدابير المتعلقة باستدامة السلام وضمان الانتقال المدني الديمقراطي. كما نحث مجلس الأمن على إنشاء لجنة تحقيق دولية للتحقيق في التقارير المتعلقة بجرائم الحرب وانتهاكات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان التي ارتكبها طرفا القتال وتحديد هوية مرتكبي هذه الانتهاكات لضمان محاسبة المسؤولين عنها. ويحدونا أمل كبير في أن تستجيبوا سعادتكم لدعوتنا على الفور وتطلبوا من مجلس الأمن عقد جلسة عاجلة لاتخاذ التدابير الفعالة اللازمة لوقف الحرب وإنهاء تداعياتها بالغة الخطورة على السلم والأمن الإقليميين والدوليين.”
واستناداً إلى التحليلات والأدلة المتعلقة بتآكل رأس المال الاجتماعي وانهيار القدرات المحلية، فإن الواقعية والأمانة الفكرية يجب أن تقود القوى المدنية الديمقراطية إلى الدعوة الصريحة إلى عملية حفظ سلام محايدة ومتعددة الأبعاد تابعة للأمم المتحدة. ومن شأن مثل هذه البعثة أن تكون مكملة للجهود الأخرى، والتي بدورها ستمهد الطريق لموافقة الأمم المتحدة على مثل هذه العملية، نظراً لأن اتفاق وقف إطلاق النار الذي يؤمل أن يتم الانتهاء منه في إطار المبادرات الحالية يعتبر شرطاً أساسياً لمثل هذه الموافقة من طرف الأمم المتحدة.
وسيكون دور عملية بناء سلام متعددة الأبعاد تابعة للأمم المتحدة مجهزة تجهيزاً كاملاً ومفوضة بشكل كافٍ ومتعدد الأبعاد أمراً بالغ الأهمية. ومن المناسب التشديد على أن العمليات المعنية لا تسمح بتدخلات خارجية أحادية الجانب وغير محايدة من قبل فرادى البلدان، حيث تعمل عمليات الأمم المتحدة لبناء السلام بموجب تفويض صارم يضمن الحياد والنزاهة والتبعية لسيادة البلد المعني. ولذلك، فإن عمليات الأمم المتحدة لبناء السلام تتماشى مع مرجعية الجبهة الوطنية الجامعة التي تضفي الشرعية المطلوبة على البعثة للمساعدة في إنهاء الحرب وفرض السلام، مما يسمح للأطراف الوطنية المعنية بإطلاق الإصلاحات الأمنية والحوكمة السياسية والاقتصادية المطلوبة لوضع البلاد على طريق التجديد والسلام المستدام.
الخاتمة:
أي مسار واقعي لإنهاء الحرب وبناء السلام في السودان لا يمكن أن يُعاد تدويره عبر صفقات تقاسم السلطة بين النخب العسكرية والمسلّحة؛ فقد أثمرت التجارب السابقة (اتفاق السلام الشامل 2005، سلام دارفور، وشراكة ما بعد ثورة ديسمبر) نتائجاً كارثيةً أعادت إنتاج العنف وأضعفت مشروع الدولة المدنية. البديل هو نهجٌ تشاركي يضع المجتمع المدني والقوى الديمقراطية في قلب عملية بناء السلام. عليه، فان السلام المستدام يتطلب جبهة مدنية عريضة تستهدى بعقدٍ اجتماعي جامع، ومؤتمراً قومياً يضع قواعد الانتقال المدني الديمقراطي، وإصلاحاً أمنياً عميقاً يعيد توحيد القوات ويفصلها عن الاقتصاد والسياسة. لكن تحقيق ذلك، في ظل تمزق النسيج الاجتماعي وانهيار القدرات، يستلزم رافعة أممية متعددة الأبعاد تعمل تحت سقف المشروع الوطني وبتكامل مع الدور الإقليمي، لتوفير الأدوات التنفيذية والتمويل المشروط بالنتائج – من حماية المدنيين وتيسير الوصول الإنساني، إلى بناء منظومة عدالة انتقالية قابلة للنفاذ وإسناد إصلاح القطاع الأمني. بهذه الهندسة، لا تكون البعثة بديلاً عن الإرادة الوطنية، بل سقالة مؤسسية تمكّن السودانيين من إنهاء الحرب، وتحويل وقف النار إلى انتقال مدني محصَّن، ووضع البلاد على مسار تجديد مؤسسي ونهضة تنموية.