الفريق أول ركن محمد بشير سليمان يكتب..” رسالة للقائد العام عن: الحرب وشمال كردفان المنكوبة” (منطقة بارا الكبرى نموذجا)

أحسب أن نكبة ولاية شمال كردفان، وبأسبقية تداعيات هذه الحرب الكارثية على منطقة بارا الكبرى “دار الريح”، أو المنطقة التي كانت تحكمها مدينة بارا عبر ما كان يُعرف بـ”مجلس بحري كردفان” — والذي يمتد أرضا من حدود ولاية الخرطوم / ولاية النيل الأبيض غربا، حتى الحدود الحالية لولاية شمال كردفان مع الحدود الشرقية لولاية شمال دارفور — ما باتت خافية على أحد، حتى وإن كان حيوانًا، من خلال تأثير تداعيات الحرب عليه.

وذلك ما أتمنى أن يدركه، بل يحسه القائد العام، الذي تقع عليه مسؤولية هذا الجمود العملياتي الذي انعكست نتائجه سلبا، بل تدميرا، على المواطنين وما يملكون، علما بأن قضية أمنه واستقراره على المستوى الكردفاني العام كانت وعدا سابقا لم يصدق فيه الفعل عملا، وتبعه في ذلك نائبه قولا، والموقف كما هو معلوم: “محلك سر”.

وقيامة كردفان — ومن خلالها حال منطقة بارا الكبرى — قائمة.

لقد كنت متابعا لهذه الحرب منذ أن اندلعت، وركزت عند بدء النجاح في اختراق تمركزات مليشيا الدعم السريع، ثم بداية دحرها خطوة بخطوة. وما كان يزعجني في الأداء العملياتي — وهو نتاج التخطيط العملياتي للقيادة العامة — أنهم تركوا أو فتحوا الطرق، مما سهّل انسحاب مليشيا الدعم السريع خروجًا من ولاية الخرطوم متجهة نحو الغرب.

وأسباب المتابعة والانزعاج في ذلك تتمثل في الآتي:

1. من بديهيات العمليات التعرضية ألا يُمنح العدو فرصة الانسحاب المنظم، بل تُخصص قوات لذلك، إن لم تتمكن القوات المواجهة له من ذلك، فتطارده وتدمّره، وتجعل توازنه ينهار، بما يؤدي لإخراجه من المعركة.

2. إن وجدنا العذر للمخطط العملياتي، أو للقيادة متخذة القرار في صعوبة توفر القوات، أو عدم سماح طبيعة الأرض بالمطاردة، فإن الخيار البديل كان ممكنًا عبر القوات الجوية والمسيرات، خاصة وأن الانسحاب كان يتم عبر مخرج واحد يمثله جسر خزان جبل أولياء، وهو ما كان يتيح سانحة لتدمير العدو عند المدخل الغربي، أو القيام بعمليات قطع عبر القوات الخاصة.

وما أحسب أن العلم العسكري علم جامد للدرجة التي تحد من الإبداع فيه. ولكن كان العدو في معظم الأوقات ينسحب في صورة رتل إداري منظم، حاملاً في مركباته حتى العوائل وما أمكن نهبه.

3. في كل الأحوال كانت الضرورة تحتم القيام بأعمال عدائية تمنع العدو من إعادة التنظيم وتمكنه من القتال مجددًا، أو ليقاتل قتالا تراجعيًا في “الأرض الحرام”.

ولكن ما حدث أن مليشيا الدعم السريع انسحبت من كل مواقعها بمحليات بحري وشرق النيل والخرطوم، وآخرها جبل أولياء، ثم أعادت تنظيم نفسها لتدير قتالًا عند الصالحة، ثم انسحبت منها أيضًا منظما، لتعيد انفتاحها في منطقة بارا الكبرى.

وهذا يعني أن الحديث عن أمن ولاية الخرطوم غير حقيقي، لأن العدو بقي في تماس عملياتي مع حدودها الغربية، وبات يتواجد في العمق العملياتي بين قيادة الفرقة الخامسة مشاة “الهجانة” التي تنفذ عمليات غربًا عند الخوي والحمادي والدبيبات.

وهو خلل تعبوي في انفتاح القوات، وكان يجب وضعه في الاعتبار عند تنفيذ عمليات الخرطوم، أي حرمان العدو من الانسحاب المنظم مهما كلف، بدل منحه فرصة إعادة التجميع والتهيؤ للقتال، سواء في “الأرض الحرام” أو غربا نحو دارفور لإسناد عملياته في الفاشر.

لقد كان الجانب الآخر من التخوف من عدم منع الانسحاب المنظم للدعم السريع من الخرطوم مرتبطا بتصور القيادة العامة لعملياتها في شمال كردفان عامة، وبارا الكبرى خاصة، من حيث:

1. خطورة المليشيا تكمن في روح الانتقام من المواطنين ردا على أي عمل عسكري، وهو ما يمارس فيه القتل والاغتصاب والسجن والتدمير والنهب، كما حدث في بارا ومناطقها الريفية، التي أصبحت أطلالًا بعد أن هجرها السكان.

2. الكارثة تضاعفت باستخدام استراتيجية العمليات الجوية للاستنزاف، مما أدى لردة فعل انتقامية أعلى من المليشيا، لتصبح الاستراتيجية غير ذات جدوى في غياب القوات الأرضية، لأن المليشيا في بارا الكبرى هدفها استيطاني، أو مكلفة بعدم مغادرة المنطقة، ولها حواضن اجتماعية.

3. إذا أصرت القيادة على هذه الاستراتيجية الجوية دون تحرك بري، كان يجب:

إعلان سكان المنطقة بمغادرتها وتحديد مناطق إيواء لهم.

أو إعداد معسكرات مجهزة لاستقبال المهجرين قسرًا مع حماية عسكرية لها.

ولأن ذلك لم يحدث، أصبح المواطنون في بارا الكبرى في حالة مأساوية، وهو ما يؤكد فشل استراتيجية الاستنزاف الجوي، التي كان نجاحها مرهونا بالتحرك البري.

من سلبيات إدارة العمليات في بارا الكبرى بالجمود الحركي:

هجرة المواطنين وقت الخريف، مما ينعكس سلبًا على الاقتصاد ويجعل المجاعة أمرًا مؤكدا.

فقدان السودان أهم منطقة عازلة (Buffer Zone) من الاتجاه الاستراتيجي الغربي، وهي بارا الكبرى الممتدة جنوبًا لتلتقي مع شرق كردفان، التي لم تتمرد ولم تحمل السلاح، وكان ينبغي أن تكون “أرضا حراما” بين الخرطوم/النيل الأبيض وشمال كردفان.

أقف هنا في مخاطبتي للقائد العام مؤكدا أن الأمر ليس محصورا في بارا الكبرى، بل كارثة تشمل أجزاء واسعة من شمال كردفان وما بعدها، حيث النزوح في أسوأ حالاته، والسلطات عاجزة عن احتوائه، والجميع في حيرة من هذا الجمود العملياتي، بعيدًا عن البشريات الوهمية التي وعدتم بها.

وأقول: إن تحرير بارا الكبرى يعني فك حصار الأبيض، وتحرير غرب كردفان، والتوجه نحو الفاشر.

وختاما: نسأل الله، ونخشى أن لا يؤدي ما كتبنا إلا لمزيد من الجمود، كما نعلم ونعرف.

وكان الله في عون من لا عون له. ولكِ الله يا دار الريح، وكان الله حاميًا وحافظا لولاية شمال كردفان وكل الغرب الحبيب، وهو خير الحافظين وأرحم الراحمين.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.