عروة الصادق يكتب.. “من الجغرافيا إلى التصور – إعادة كتابة السودان كفكرة”
● منذ أن رُسمت حدود السودان الحديثة على خرائط القوى الاستعمارية وطبوغرافيا سايكس بيكو المتروكة، ظل هذا الكيان السياسي يعيش في مأزق التوفيق بين الجغرافيا الموروثة والهوية المنشودة، وعلى امتداد عقود ما بعد الاستقلال، تردّد السؤال الحاسم: هل نحن دولة أم مجرد مساحة؟
– فالموروث الإداري والسياسي الذي تركه الاستعمار لم يكن سوى هيكل جامد، بلا روح جامعة ولا سردية وطنية مُتفق عليها، الأمر الذي جعل فكرة السودان نفسها هشّة أمام الأزمات والانقسامات، وجعل من تركة المؤسسات القومية مخلب قط لخدمة أجندات خارجية وعلى رأس تلك المؤسسات القوات النظامية وهياكل الحكم ومؤسسات الخدمة المدنية.
– اليوم ونحن أمام لحظة انكشاف وانهيار داخلي شامل، تتجاوز الأزمة حدود الصراع المسلح أو انهيار الخدمات؛ إنها أزمة المعنى الوطني ذاته، فالخرائط ما زالت موجودة، لكن الخيال المشترك الذي يجعل تلك الخرائط ذات قيمة، قد تآكل إلى حدّ الغياب، ولا يوجد تصور مشترك يجمع شتات الهويات السوداني.
– إن إعادة التفكير في السودان – لا بوصفه موقعًا على الكرة الأرضية، وإنما كفكرة يعيشها ويؤمن بها أبناؤه – باتت مهمة سياسية وأخلاقية وثقافية عاجلة، ذلك لأن الدول التي تُبنى بالقوة الغاشمة تنهار مع أول ارتخاء لقبضتها العسكرتارية، أما الدول التي تُبنى على فكرة جامعة، فهي وحدها التي تبقى وتقاوم الزمن، ومن هنا، ينطلق هذا النص من فرضية بسيطة وعميقة: إذا أردنا إنقاذ السودان، فعلينا أولًا إعادة كتابته كفكرة، قبل إعادة ترميمه كخريطة.
● أولا: الوطن ليس خرائط، بل معنى مشترك
في الخطابات التقليدية، غالباً ما يُختزل الوطن في خطوط طولٍ وعرضٍ، ونقاط تماس حدودية، وسلاسل جبالٍ وأنهار، وأودية وفرقان، ومراحيل ومسارات، وتضاريس تُرسم على الورق، لكن حين تنفجر الدولة من داخلها، كما هو حال السودان اليوم، يتضح أن الخرائط لا تضمن الوحدة، كما أن الجغرافيا لا تنتج الولاء، وما نحتاجه، إذا أردنا إنقاذ السودان، ليس فقط الحفاظ على “أرضه”، وإنما إعادة تشكيل تصوره ومعناه.
❖ إن الوطن ليس ما نعيش فيه فقط، وإنما ما يعيش فينا من تصوّر عادل ومشترك عن الذات، والمستقبل، والآخر، وأي محاولات طرد مركزية تمارس داخل مؤسساته القومية وتكويناته السياسية ومرافقه السيادية على أسس هوياتية كالتي تصدر عن حكومة الأمر الواقع تجعل منه بيتا للعنكبوت عرضة للخراب في أي وقت.
● ثانيا: السودان بوصفه فكرة معلّقة
لم ينجح السودان، منذ استقلاله، في تثبيت نفسه كـ”فكرة ناجزة” في وعي أبنائه، ولقد ظل مشروعاً مؤجلاً، وهويّة في طور التكوين، ودولة غير مكتملة في وجدان مواطنيها.
لماذا؟ لأن التأسيس الأولي للدولة السودانية كان تأسيساً بلا تصور جمعي، جرى في غرف استعمارية، وانتقل إلى نخب محدودة أعادت إنتاجه دون مساءلة، وكانت النتيجة:
– دولة تسكن الأرض، ولا تسكن الوجدان.
– أعلام ترفرف في الميادين، لكنها لا ترفرف في الأحلام.
– خطب حماسية، لا تترجم إلى لغة عيش مشترك.
● ثالثًا: خريطة بلا معنى: سقوط الجغرافيا كضامن وطني
إن الجغرافيا وحدها لم تمنع الحرب، ولم تمنع الانفصال، ولن تمنع الانهيار.
لقد أصبح واضحاً أن الخرائط لا تصنع أوطاناً، بل تصنع حدوداً فقط.
لأن السودان – بوصفه جغرافيا – موجود.
لكن السودان – بوصفه تصورًا جماعيًا – مفقود.
وما بين الموجود والمفقود يتجاوز الجميع كل الفروض لصالح مشروع أيدولوجي آحادي إخواني موؤود، يحاولون إحياءه من بين رميم النظام القائد.
من هنا، يصبح التحدي الحقيقي اليوم هو تحويل الجغرافيا من معطى مادي إلى سردية جامعة؛ أي: كيف نعيد كتابة السودان كتَصوّر، لا كموقع؟
● رابعًا: عناصر التصور الوطني السوداني الجديد
أ. سردية تأسيسية عادلة: نحتاج إلى نص رمزي جديد يقول لنا: من نحن؟ ولماذا نحن معاً؟ وهذه السردية لا تكتبها الدولة فقط، بل تُبنى من شهادات الشعوب، وأغاني الريف، وقصص المدن المهمشة، وتاريخ العرق المكبوت.
ب. ميتافيزيقا الوطن: فالوطن ليس مصلحة فقط، وإنما اعتقاد جماعي بأننا نستحق البقاء المشترك لا الإبادة تحت مسمى (الحواضن)، وينبغي إعادة تشكيل الوطن بوصفه “مكاناً ذا معنى”، لا مكاناً ذا حدود فقط يهيمن على قراره ووثائقه حفنة من المحتكرين الفاسدين المحتمين بسلطة القهر وقوة السلاح، وهذا يتطلب ميثاقاً وطنياً جديداً يعترف صراحة بالظلم التاريخي، ويتعهد جماعياً بعدم تكراره.
ج. توزيع الحق في الحلم
لا وطن بلا أمل، ولا أمل بلا عدالة في توزيع “حق الحلم” — أن تحلم بمستقبلك داخل هذه الدولة، لا خارجها؛ وكل منطقة، كل مجموعة، كل طفل، يجب أن يشعر أن السودان ممكن في حياته، لا مجرد حلم في كتب المدارس.
● خامسًا: التصور كوسيلة للمقاومة والبناء
في مواجهة خطاب الكراهية، والنزعة التقسيمية، والعنصرية المقنّعة، وفي ظل بؤس الواقع، والمؤامرات التي تحيكها أيادي التنظيم المحلول والحركة الإخوانية، يصبح التصور السياسي أداة للمقاومة.
❖ وحده التصور يمكن أن يهزم الاستعلاء.
❖ وحده التصور يمكن أن يجمع من فرّقتهم البنادق.
❖ وحده التصور يمكن أن يصنع سوداناً أوسع من قوس الدم والطين.
● ختامًا: من الدولة كمسطرة… إلى الدولة كقصيدة
آن للسودان أن يتحرر من كونه مجرد كيان مرسوم بالمسطرة الاستعمارية التي يمثك بها ورثة الاستعمار وسدنة الأجندة الخارجية، وأن يبدأ رحلته الحقيقية كأرجوزة وطنية تُكتب بأنامل أبنائه وبناته، وتسكن في أرواحهم، وهذا لن يتأتى في ظل وجود سلطة القهر الحالية النازحة في بورتسودان، ولا بأيادي من تلطخت أياديهم بالدماء وامتلأت جيوبهم بالمال، ولن يكون له سبيلا بالترميز التضليلي الذي تمارسه ما يعرف بـ (حكومة الأمل)، فالسودان الذي يُبنى بالحديد والنار سينهار، أما السودان الذي يُبنى بالمعنى والوعي فسيبقى.
❖ لأن المعنى لا يُقصف.
❖ والأرجوزة لا تُحتل.
❖ والحلم، إذا كُتب بالدمع، لا يُمحى.
❖ والوعي يهزم منطق القوة بقوة المنطق.
orwaalsadig@gmail.com
مقال أسبوعي للغد للسوداني
