وزير المالية السابق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. حكومة الثورة بين أباطيل “الشيطنة” وتجنيات “التطفيف”
المشروع الوطني السوداني بين رغائبية “دولة البحر والنهر” وأشواق “ثورة ديسمبر عائدة راجحة”
المقال السادس: حكومة الثورة بين أباطيل “الشيطنة” وتجنيات “التطفيف”
بقلم: بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي، وزير المالية والتخطيط الاقتصادى السابق ، والمدير التنفيذي، منتدى الدراسات والبحوث الإنمائية
قبل أن أدلف الى المحورين الأخيرين فى هذه السلسلة من المقالات والتى سأعالجها باذن الله فى المقالات الأربعة القادمة، يتحدث هذا المقال عن ضرورة انصاف حكومة الفترة الانتقالية وتفنيد أباطيل خصومها وكذلك، للأسف، تجنيات البعض من ذات معسكر الثورة التى أتت بها. وهنا أود أن أتحدث عن فئتين من هؤلاء “المشيطنين” و”المطففين”.
أولاً، فئة “المشيطنين” وهى التى أسماهما الامام الصادق المهدى، عليه الرحمة والرضوان – (تأدباً) – ب “اليمين المغبون” وهى فى واقع الأمر “اليمين المغبون، المجرم”، بالنظر الى أن هذه الطغمة لم تتوانى فى توظيف كل أدواتها من كذب وتدليس لمشروع “شيطنة” حكومة الثورة وتحالف الحرية والتقدير، بل وقد هدد بعض قادتها على رؤوس الأشهاد، عبر القنوات الفضائية والندوات واللقاءات المبذولة للرأى العام، بأنه “اذا لم يتم التخلى عن الاتفاق الاطارى، فليحترق السودان”. وعندما أعيتهم الحيلة بفضل شجاعة وفدائية شباب الثورة ومقاطعة المجتمع الدولى، الأمر الذى فرض الاطارى كمسار وطنى أوحد للخروج من مأزق انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، ذهب بهم الحقد وعدم الوطنية الى احراق السودان فعلاً لا قولاً باشعالهم لهذه الحرب الكارثية.
ثانياً، فئة “المطففين” الذين للأسف رضوا لأنفسهم بأن يكونوا الوجه الآخر للعملة، رغم دورهم المعروف فى الثورة ومعارضة نظام الانقاذ. فقد سعى هؤلاء الى “تبخيس” انجازات الحكومة، بل ومواقف رفقائهم الآخرين فى تحالف الحرية والتغيير، سعوا فى ذلك بغرور واستعلائية غير مسبوقة، وبعصبية أيدولوجية دونكيشوتية متكلسة لدرجة مثيرة للشفقة، خاصة فى مجالات الاصلاح الاقتصادي واعفاء الديون ودعم الأسر وغيرها من البرامج الاستراتيجة الكبرى التى اضطلعت بها حكومة الثورة. فى سياق هذه المقاربة النقدية لسردية اليسار السودانى ومواقفه غير المبررة، بل والمثيرة للحزن، لا أجد أبلغ من ايراد ثلاثة أمثلة لتحولات اقتصادية كبرى أنجزتها نخب ماركسية عالمية أو يسارية أفريقية بدعم وتنسيق كامل مع مؤسسات التمويل العالمية – والتى عادة ما يتم استسهال وصمها من طرف هذا التيار بسبة أنها لا تعدو أن تكون مجرد أدوات للامبريالية العالمية الطامعة فى نهب ثروات البلاد. لعلنا بدراسة هذه التجارب نستخلص العبر والدروس فى معسكر الثورة والمدنية ونتوافق على اطلاق اسر الحوار الوطنى من “شرنقة السردية الأيدلوجية المتكلسة” والتى للأسف ساهمت فى اعاقة مشروع الثورة النهضوى وأراحت أعداءها الأصيلين من “اليمين المغبون، المجرم” وبقايا سدنة نظام الانقاذ البائد.
فيتنام – التعاون وشراكة الاصلاح الاقتصادى مع البنك وصندوق النقد الدوليين:
لعب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي دوراً حاسماً في دعم التحول الاقتصادي في فيتنام منذ أواخر الثمانينيات، بالتوازي مع إطلاق الحكومة الفيتنامية برنامج “Đổi Mới” للإصلاح الاقتصادي. ركّز صندوق النقد الدولي على تحقيق الاستقرار الكلي من خلال تقديم مساعدات مالية واستشارية، ساعدت في خفض التضخم، إصلاح السياسات النقدية والضريبية، وتحسين أداء النظام المصرفي. في الوقت نفسه، قدّم البنك الدولي تمويلاً واسع النطاق عبر رابطة التنمية الدولية (IDA) لدعم مشروعات البنية التحتية، التعليم، الصحة، والحوكمة، بالإضافة إلى برامج إصلاح السوق وإعادة هيكلة المؤسسات العامة. منذ استئناف الشراكة التنموية في عام 1993، قدم البنك الدولي بواسطة أدواته المختلفة اعتمادات ومنح إلى فيتنام قُدّرت بنحو 24 مليار دولار أميركي بحلول مارس 2019، عبر 165 مشروعٍ تنموىٍ وبرامجَ سياساتٍ عامة.
عملت المؤسستان بشكل متكامل، حيث ركّز الصندوق على السياسات الكلية قصيرة الأجل، بينما تولى البنك الدولي دعم الإصلاحات الهيكلية والتنمية بعيدة المدى. أدى هذا التعاون فى ظل القيادة الوطنية القوية للحزب الشيوعى الفيتنامى إلى انجاز تحولات اقتصادية هائلة: فقد انتقلت فيتنام من كونها دولة فقيرة إلى دولة ذات دخل متوسط، وانخفض معدل الفقر من أكثر من 70% إلى أقل من 5%. تجربة فيتنام تُعد نموذجاً ناجحاً للاستفادة من المساعدات الدولية في ظل التزام داخلي جاد بالإصلاح.
الصين – التعاون وشراكة الاصلاح الاقتصادى مع البنك وصندوق النقد الدوليين:
كان لكل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي دوراً داعماً ومكملاً في التحول الاقتصادي الصيني، خاصة خلال العقود الأولى من الانفتاح والإصلاح. ركز البنك الدولي على تمويل مشاريع تنموية ذات طابع استراتيجي، مثل تطوير الزراعة، تحديث البنية التحتية للنقل في مدن كبرى مثل شانغهاي، وتحسين التعليم في المناطق الفقيرة، إلى جانب دعم مشاريع بيئية وطاقة نظيفة. كما قدم مشورة فنية مهمة عبر تقارير مثل “الصين 2030″، الذي ساهم فى رسم خارطة الطريق للإصلاحات طويلة الأجل.
أما صندوق النقد الدولي، فاقتصر دوره بشكل أساسي على تقديم المشورة الاقتصادية وتقييمات دورية من خلال المادة الرابعة(Article 4) ، مع دعم إصلاحات القطاع المالي والنقدي. ومن أبرز مساهماته إدراج اليوان الصيني ضمن سلة حقوق السحب الخاصة عام 2016، وهو ما تطلب إصلاحات مؤسسية عززت من اندماج الصين في النظام المالي العالمي.
لكن من الأهمية بمكان التأكيد على أنه وبالرغم من أهمية دور هاتين المؤسستين فى دعم الصين، خاصة خلال المرحلة الحرجة عند بدايات مشروعها النهضوى، الا أن القيادة الصينية ظلت، كما يجب، هي المحرك الرئيس للتحول الاقتصادي المذهل الذى حدث خلال ما يقارب الخمسين عاماً منذ وصول الزعيم دينج هيسياو بنج للسلطة فى العام 1978.
اثيوبيا – التعاون وشراكة الاصلاح الاقتصادى مع البنك وصندوق النقد الدوليين:
ساهم كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بصورة غير مسبوقة في دعم وتمويل التحول الاقتصادي في إثيوبيا منذ أوائل التسعينيات، بعد تبني إصلاحات السوق بقيادة الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية. ركزت الحكومة على النمو الزراعي، والاستثمار في البنية التحتية، والتحول الهيكلي، بدعم كبير من المؤسستين الدوليتين.
أولاً، دور البنك الدولي :
قدم تمويلًا يفوق 25 مليار دولار منذ التسعينيات عبر رابطة التنمية الدولية (IDA).
دعم مشروعات البنية التحتية، الصحة، التعليم، الحماية الاجتماعية، والزراعة.
أدار مشروع شبكة الأمان الإنتاجية (PSNP) للأمن الغذائي، وشارك في إعداد الاستراتيجيات الوطنية للتنمية.
ثانياً، دور صندوق النقد الدولي:
قدم تسهيلات تمويلية مثل التسهيل الائتماني الموسع (ECF) وبرامج HIPC لتخفيف عبء الديون.
ساهم في خفض التضخم وتحسين السياسة النقدية والمالية.
قدم أكثر من 400 مليون دولار في تمويل طارئ لمواجهة جائحة كوفيد 19
ثالثاً، الخلاصة والنتائج: ساهمت المؤسستان في تمويل واسع النطاق ودعم فني مكثف، مع التركيز على تحقيق التحول الاقتصادي الشامل في إثيوبيا بقيادة وطنية واضحة وبرامج طموحة للتنمية الريفية والصناعية.
وقد كان هناك تنسيقاً جيداً بين المؤسستين، حيث ركّز الصندوق على الاستقرار الكلي، بينما دعم البنك التنمية والإصلاحات الهيكلية. كذلك تمت الاتفاقات التمويلية بشروط إصلاحية معتدلة تأخذ في الحسبان خصوصية الوضع الإثيوبي. كان ثمرة هذا المشروع الوطنى النهضوى الذى أحدثته النخبة الأثيوبية الحاكمة، بقيادة الراحل ملس زناوى، بأن سجل الاقتصادالأثيوبى نمواً سنوياً تراوح بين 8 الى 10% لمدة 15 عاماً بين عامى 2004 و 2015، بينما انخفض معدل الفقر من 45% إلى حوالي 23% بحلول العام 2020. هذه التحولات الاقتصادية الهائلة أدت الى تصنيف أثيوبيا بواسطة (https://www.growth-commission.com) “مفوضية النمو العالمية” كدولة استطاعت تحقيق “نصف معجزة تنموية” وكان ينقصها عشر سنين أخرى من هذا النمو السريع لتحقق “معجزة تنموية” مكتملة الأركان، أسوة بدول النمور الآسيوية، الأمر الذى لم يحدث كنتيجة للصراعات الداخلية والخلافات التى عصفت بتحالف الجبهة الحاكمة بعد وفاة الزعيم ملس زناوى.
خاتمة:
بينا في هذه المقالة عوار الحملات الجائرة على حكومة الثورة السودانية التى تمثلت فى محاولات “الشيطنة” من قِبل اليمين المغبون و”التطفيف” من بعض القوى افى معسكر الثورة من الذين للأسف تجاهلوا إنجازاتها البينة. فهذه الحكومة، رغم التحديات، قد حققت مكاسباً اقتصادية واستراتيجية كبيرة، مثل بدء الإصلاحات الاقتصادية، وإعفاء الديون، وبرنامج دعم الأسر، إلا أن كلا الجانبين قد قللا من شأن إنجازاتها، إما بدوافع أيديولوجية أو سياسية. بالنظر الى أن أهداف “اليمين المغبون، المجرم” معلومة ومواقفة المعادية للثورة ليست مستغربة، ركزنا على تيار اليسار من معسكر الثورة المجيدة، حيث استعرضنا تجارب دول مثل فيتنام، الصين، وإثيوبيا التي تعاونت بفعالية مع مؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتحقيق تحولات اقتصادية كبرى دون أن تتخلى عن قيادتها الوطنية أو مشروعها السيادي، آملاً أن تفضى المراجعات المخلصة والأمينة المرجوة من قبل هذا التيار الوطنى الى تجاوز السرديات الأيديولوجية الجامدة لتحقيق توافق وطني يدفع بمشروع الثورة السودانية نحو الأمام.
بالرغم من دفوعاتنا المستحقة عن الفترة الانتقالية وحكومتها المدنية، الا أن هناك من يرى بأن المكون المدنى قد كان ضعيفاً بل وساذجاً فى تعامله مع السلطة العسكرية القابضة والتى، مثلاً، استطاعت تحويل منبر سلام جوبا لحصان طروادة لمشروع الردة الشمولية، الذى انتظمت فيه معظم الحركات الموقعة على الاتفاق، فضلاً عن الحركة الاسلاموية وغيرهم من أنصار النظام السابق. بلا شك، لابد من الاعتراف بمشروعية مثل هذا النقد والتعامل معه بموضوعية. فى هذا السياق، اذكر أن الأستاذ فيصل محمد صالح، وزير الاعلام الأسبق، قد حذر فى احدى جلسات مجلس الوزراء من خطورة “ترك الحبل على الغارب” للمكون العسكرى لقيادة عملية السلام والمفاوضات فى جوبا فى ظل تراجع دور تحالف الحرية والتغيير والحكومة معاً. ولكن ما حدث من اخفاقات فى هذا الشأن وغيره من استحقاقات الفترة الانتقالية – كما فى حالة نجاح المؤسسة العسكرية فى الاحتفاظ بأصولها ومصالحها الاقتصادية والمالية، بالرغم من جهود “لجنة ازالة التمكين ومحاربة الفساد” ومحاولات وزارة المالية ممارسة صلاحياتها الدستورية بشأن الولاية على المال العام – تعود، براى، لطبيعة الشراكة الدستورية مع سلطة عسكرية مثقلة بتراث النظام البائد ولها مصالحها الفئوية الزبائنية الكبيرة فى منظومة “سوق المال السياسى” لذلك النظام. لا شك أن قادة تحالف الحرية والتغيير قد غلَّبوا حسن النية المعهودة لدينا كسودانيين وبالتالى تم التجاوز عن مخاطر هذه الشراكة المعطوبة، عسى ولعل أن تجربة الانقاذ الكارثية وألق الثورة الباذخ يدفعان الكل بما فى ذلك قيادة المكون العسكرى وكذلك ما يسمى بحركات الكفاح المسلح بأن تخلص النية والعمل للثورة وأهدافها الوطنية الكبرى فى الانتقال السلمى المدنى الديمقراطى. للأسف لم يحدث هذا، وعليه لابد من أخذ العبر عندما يأتى “اليوم التالى” بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها باذن الله، ولو بعد حين.