
حرب بلا سلاح.. “الإنهيار الصامت للاقتصاد السوداني”
الخرطوم: مبارك علي
منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023م، يواصل الاقتصاد السوداني الانهيار بشكل متسارع، ما دفع الجنيه إلى واحدة من أسوأ مراحل التدهور في تاريخه، وسط غياب شبه تام لمؤسسات الدولة المالية والرقابية، وتفاقم معاناة المواطنين يوماً بعد يوم.
خلال الأسابيع الأخيرة، تجاوز سعر صرف الدولار حاجز الـ(3) آلاف جنيه، في ظل محاولات رسمية باهتة للسيطرة على التدهور. وقد انعكس الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه مباشرة على أسعار السلع والخدمات، التي ارتفعت بشكل غير مسبوق في كل أنحاء السودان.
أزمة معيشية خانقة
لم تعد الأسر السودانية قادرة على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتها، إذ تضاعفت أسعار السلع الضرورية، وازدادت صعوبة الحصول على الدواء بأسعار مناسبة، فضلاً عن تفاقم أزمات المياه والكهرباء والخدمات الأساسية.
آمنة عيسى، موظفة حكومية من ود مدني، تروي لـ(الغد السوداني):
“راتبي الشهري لا يغطي حتى أسبوعاً واحداً من احتياجات المنزل. الأسعار ترتفع باستمرار، والدخل لا يواكب أبسط متطلبات الحياة”.
وتضيف بأسى: “عدت من النزوح إلى منزلي، لكن الحال لم يتحسن، بل ربما كان الوضع في مركز الإيواء بولاية القضارف أفضل، على الأقل كانت المتطلبات أقل. أما الآن، فالأسعار نار والمصاريف لا تطاق”.
وتتابع آمنة: “في السابق كان هناك بعض الاستقرار النسبي، أما الآن فالأرقام تقفز بشكل جنوني: كيلو السكر وصل إلى أربعة آلاف جنيه، بعد أن كان بـ(2500)، وزجاجة الزيت (1 لتر) قفزت من (6) آلاف إلى (8) آلاف، أما اللبن البودرة فزاد من (20) ألفًا إلى (24) ألفًا. ارتفع سعر ملوة البصل من 1500 إلى 5000 جنيه، وباكو الصلصة من 10 إلى 14 ألفًا”.
جشع واستغلال
في سوق الدويم، يقرّ التاجر حمزة رابح بوجود ارتفاع كبير في الأسعار، ويعزو السبب إلى زيادة سعر الدولار الجمركي، لكنه يشير أيضاً إلى أن بعض المستوردين والتجار استغلوا الأزمة لتحقيق أرباح طائلة.
ويقول لـ(الغد السوداني): “الزيادات الأخيرة لا يمكن تبريرها بالكامل، هناك جشع واضح من البعض، كل تاجر يسعّر كما يشاء مستغلاً غياب الرقابة”.
ويرى حمزة أن ضعف القوى الشرائية هو نتيجة طبيعية لهذا الغلاء، مشيراً إلى أن الفئات ذات الدخل المحدود باتت عاجزة تماماً عن مجاراة السوق، وأن استمرار الحرب سيقود إلى مجاعة وانهيار اقتصادي شامل، والمواطن سيكون أول الضحايا وآخرهم.
قلة الانتاج ..
في أسواق الفواكه والخضروات، الوضع ليس أفضل. فالحرب عطّلت الزراعة وقلّصت الإنتاج، مما رفع الأسعار وقلل المعروض.
يقول أحمد آدم، بائع خضروات وفواكه بسوق ربك في ولاية النيل الأبيض:
“الزبائن أصبحوا قلة، وشراء الخضروات تراجع بشكل كبير، وأحياناً نضطر لرمي البضاعة بسبب فسادها”.
ويضيف بحزن: “الحرب أثّرت على الزراعة بشكل مباشر، الرقعة المزروعة تقلصت، والإنتاج انخفض كثيراً، مما دفع الكثير من الأسر للاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم”.
ويختم بقوله: “أكثر الخضروات التي تتلف لدينا يوميًا: الطماطم، العجور، الكوسة، الجرجير، الفجل، الرجلة، والخِضرة. إذا استمر الحال على ما هو عليه، سأغلق محلي”.
تشخيص اقتصادي
الخبير الاقتصادي يوسف عبد الرحيم يرى أن جذور الأزمة تعود إلى ما قبل الحرب، لكن الصراع المسلح ضاعف التدهور. ويقول لـ(الغد السوداني): “الوضع الاقتصادي كان هشًا من قبل، نسبة التضخم بنهاية 2022 بلغت أكثر من 60%، وارتفعت إلى 100%، ثم إلى 200% بعد اندلاع الحرب”.
ويضيف: “السبب الرئيسي هو توقف الصادرات وهروب رؤوس الأموال، خاصة في مجالات الذهب، الماشية، والصمغ العربي، إلى جانب غياب الدولة في مساحات واسعة من البلاد، وطباعة النقود دون غطاء إنتاجي”.
أرقام تكشف عمق الكارثة
بحسب لجنة المعلمين، فإن الحد الأدنى لتكلفة المعيشة الشهرية لأسرة مكونة من 5 أفراد بلغ (354,000) جنيه، فيما تصل الكلفة في بورتسودان إلى (2.8) مليون جنيه شهريًا.
وأشارت اللجنة إلى أن الأجور الحالية لا تغطي سوى 1% إلى 8% فقط من هذه التكاليف، وأن أكثر من 90% من العاملين في القطاع الحكومي يعيشون تحت خط الفقر المدقع.
وطالبت اللجنة بضرورة إعادة هيكلة الأجور بشكل عاجل، بما يتناسب مع الواقع المعيشي القاسي الذي تعيشه البلاد.
من جانبه، أكد بنك التنمية الإفريقي في تقريره السنوي أن الحرب أدّت إلى تدمير واسع في بنية الاقتصاد، وفاقمت أزماته المزمنة، مما زاد من تردي الأحوال المعيشية.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن أكثر من 30 مليون سوداني أصبحوا في حاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، فيما ارتفعت معدلات الفقر إلى 71%، في واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في تاريخ السودان الحديث.