عروة الصادق يكتب.. “تفكيك عقيدة التوحيد القهري | ضد الدولة الغالبة.. رؤية استراتيجية للغد السوداني”

● منذ لحظة الاستقلال الأول في ١٨٨٥م وما تلاها من عودة استعمارية، والثاني في ١٩٥٥م وما تلاه من حقب استبدادية، ورثت الدولة السودانية نموذجاً سلطوياً مركزياً يُدار بعقل أمني متخندق، يقوم على فرض تصور أحادي للوحدة الوطنية، أُطلق عليه “عقيدة التوحيد القهري”، وهذا النموذج لم يُبنَ على توافقات اجتماعية أو عقد وطني جامع، بل استمد منطقه من فلسفة الغلبة، حيث تتقمص الدولة وظيفة “الهوية الوحيدة”، وتعتبر التعدد تهديداً، لا رافداً، تأرجحت ما بين اشتراكية قومية يسارية، إلى يمينية ايدولوجية إسلاموعربية أنكرت قطعيات الوحي: ﴿وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَ ٰ⁠نِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡعَـٰلِمِینَ﴾ [الروم ٢٢]، واستبدت بفرعونية تردد قول فرعون: ﴿مَاۤ أُرِیكُمۡ إِلَّا مَاۤ أَرَىٰ وَمَاۤ أَهۡدِیكُمۡ إِلَّا سَبِیلَ ٱلرَّشَادِ﴾ [غافر ٢٩]

● فأصبحت الدولة الغالبة تنطلق من منطق الهيمنة لا البناء؛ وهي تجلٍ لمركزانية متعالية ترى في نفسها المصدر الحصري للسيادة، والممثل المطلق للهوية، وصاحبة الحق في “توحيد” البلاد حتى لو استلزم ذلك القمع، الإقصاء، أو الهندسة الاجتماعية، وهي دولة لا تُدير التعدد أو تعترف به، بل تُلغيه، ولا تتعاقد مع مكوناتها، بل تُملي وتستعلي عليها.

● تاريخياً هذه العقيدة كانت المسوغ الأيديولوجي لانقلابات العسكر، وحملات الأسلمة القسرية، والتعريب القسري، وتهميش الأقاليم وتهشيمها، وظلت مبررا لقمع الحركات الاحتجاجية، إلى أن قادت لحريق وانفصال الجنوب وإبادة حوالي 300 ألف نفس في دارفور، كلها نتائج لمشروع وحدة مفروضة من أعلى، بقوة الحديد والنار.

– لذلك علينا الخروج من دائرة الفعل الأحادي الاستبدادي ومن “توحيد الإكراه” إلى “الوحدة العضوية المتعددة”

– على القوى السياسية والاجتماعية المدنية السودانية أن تطرح تصوراً استراتيجياً بديلاً يُسمى:

> ❖ الوحدة العضوية المتعددة (Organic Polyunity)

– حيث تكون الوحدة ناتجاً طبيعياً للتعدد، لا نقيضاً له، وهذا المفهوم لا ينكر مركزية الوطن، بل يعيد تعريفها بوصفها “حالة مركبة”، تتكون من دوائر ثقافية، سياسية، ومجتمعية، وحلقات انتماء مختلفة غير متخلفة، تتشارك في السيادة دون أن تذوب في هوية واحدة قسرية.

– على أن أسس استراتيجية “الوحدة العضوية المتعددة”

– التعدد كمنطلق بنيوي وليس مجرد تنوع سطحي في الأعراق أو اللغات، وإنما هو شرط تأسيسي للشرعية السياسية والدستورية.

– دستور تعددي – المرجعية يعيد هيكلة السلطة على أساس اللامركزية المتعددة المستويات (pluricentric federalism)، يسمح بتعايش الهويات السياسية المحلية ضمن أفق وطني مشترك، دون استحواذ.

– الهوية المركبة التي يرفض فيها مفهوم الهوية الواحدة الجامعة لصالح هوية سودانية مرنة، تستوعب الإسلام والمسيحية، العروبة والإفريقية، المركز والهامش، الحضري والريفي، النهر والظهر، المهجر والداخل .. الخ.

– تفكيك الدولة الغالبة ليس عبر تقويض الدولة ذاتها وإنما عبر إعادة هندستها من الداخل لتكون حاوية لا مهيمنة، ضامنة لا مستبدة.

> ولنمضي جميعاً إلى أفق استراتيجي ما بعد العقيدة القهرية، لأن تفكيك عقيدة التوحيد القهري لا يعني نشر الفوضى أو فتح الباب أمام الانقسام، وإنما هو شرط لبناء عقد اجتماعي جديد، يكون بمثابة “عقل استراتيجي جماعي” للدولة السودانية، وهذا العقد يستلهم التجارب الفيدرالية المتقدمة، ويؤمن بأن الدولة لا تُبنى فوق التنوع وإنما من خلاله.

وفي ضوء هذا التصور، يتحول مشروع البناء الوطني القومي الجامع من مشروع قهر إلى مشروع تحاور، ومن سلطة فوقية إلى شراكة أفقية، ومن دولة متغلبة إلى دولة راعية.

● ختامًا: إننا بما لنا من امتداد تاريخي وفكري، ندعو إلى ثورة مفاهيمية تسبق الثورة السياسية، تعيد تعريف ماهية “الوحدة” و”السيادة” و”الهوية”، ولن يتم ذلك إلا بتجاوز الدولة الغالبة، وتأسيس دولة عضوية تعددية، يُنتجها المجتمع لا تُفرض عليه، و”إن الوحدة القسرية تُنبت الانفصال، أما الوحدة العضوية فتنبت الانتماء.”

ليكن انتماؤنا الهوياتي للسودان؛ وليكن السودان للسودانيين.

 

مقال أسبوعي للغد السوداني

orwaalsadig@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.