عروة الصادق يكتب.. “في الحاجة إلى منصة وعي من مناورة اللحظة إلى استراتيجية النجاة”
آن للسودانيات والسودانيين القابعين في قاع الجحيم أن تشرئب أعناقهم لحل يتجاوز وصفات الخارج المنغمسة في الأجندة الخاصة، والمتشحة بكوابح الأطماع الجيوسياسية ومخاوف الخارج، ونحن في برزخ التيه السوداني، حيث تتصارع الظلال ولا يظهر الضوء، وحيث انقسم الجسد الوطني إلى أطرافٍ تتغذى من نزيف المركز، يبدو المشهد السياسي كما لو أنه لوحة جيوسياسية مشظاة، تتنازعها القصور الذاتي للنخب، وانعدام الخيال الاستراتيجي، واستمراء الإقامة في حدود “الردّ اللحظي” على انهيارات متراكبة.
لقد انكفأ الوعي السياسي السوداني على ذاته الغريزية، ليُنتج نخبةً تائهة، تستثمر في الأزمات بدلًا من تفكيكها، وترتهن لسلطة المناورة التكتيكية، بدلًا من الالتحام بأفق استراتيجي يبني وطنًا قابلًا للحياة، وتتوارى خلف البنادق في اللحظة التي تتحدث فيها عن ضرورة الحوار “المناوي”، نحن أمام طبقة سياسية تمارس إدارة البقاء لا مشروع بناء الدولة، وهو أخطر أشكال الخيانة غير المعلنة.
جمعهم خاضوا بصورة أو أخرى في مشروع عسكرة الوعي الجمعي، الذي يمثل أبهى وجوه الهندسة العكسية للخراب، وإن أخطر ما يتهدد السودان ليس الانقسام الجغرافي، ولا حتى الاحتراب المسلح، وإنما هو عسكرة الوعي الجمعي، وتحويل البندقية من أداة حماية إلى مُكوّن ذهني حاكم يُشرعن الهيمنة، ويستبطن القوة كأفق وحيد للفعل السياسي.
هذا التشوه الإدراكي يُحوّل الجندي إلى مشرّع وربما قاض يذبح ويقيم الحدود على الوجه الذي يرضيه ولا يرضي الله استرضاءً لمشروع أيدولوجي أو قائد دموي، والقائد الميداني يتحول بفعل ذلك إلى صانع دولة، بينما تُهمّش المؤسسات، وتُختزل السيادة في فوهة بندقية، ولقد جرى خلال العقود الأخيرة إعادة تعريف مفهوم الدولة في المخيال السوداني: لا باعتبارها نظامًا مؤسسيًا مدنيًا، وإنما “غنيمة جغرافية” تؤول لمن يملك أكثر عدّة وعديدًا وعتادًا.
وما يؤسف له المنصة الغائبة هي التي ينبغي لها أن تنتشلنا من الوعي الانفعالي إلى الوعي المركّب، وثمة ضرورة مصيرية لتدشين منصة وعي سودانية هجينة: لا تأخذ من القديم إلا حكمته، ولا من الحداثة إلا ما يتجاوز وهمها، وعيٌ مركّب، تراكمي، بعيد النظر، يتعامل مع المخاطر بوصفها متغيرات استشرافية وليست أزمات آنية، وهذا الوعي المطلوب ليس تفاؤليًا شاعريًا، بل واقعي استراتيجي، يستند إلى خرائط التهديدات المستقبلية:
تفكك الهُوية الوطنية؛
العسكرة الزاحفة على الفضاءات المدنية؛
التدويل غير المتكافئ للقرار السيادي؛
البلقنة المحتملة للدولة السودانية؛
والنموذج الليبي ككابوس خلفي يلوح في الأفق.
بالضرورة القفز من الحفرة التي أدخلتنا فيها جماعات أيدولوجية واهمة بانقلاب أكتوبر 2021م وسدنة حرب إبريل 2023م، لتجاوز وعي الساسة التجار إلى نمذجة جديدة للفعل الوطني والوعي السياسي الجديد، وما لم يتم كسر الحلقة المفرغة لوعي الساسة اللحظي — المُنتشِر كما الطُفيلي في مفاصل القرار — فإن السودان سيتحول إلى حقل تجارب جيوسياسي مستدام، وهذا الوعي اللحظي لا يرى في الوطن إلا مسرحًا للنفوذ العابر، ويتقن فن الإنهاك المتبادل، ويؤمن بأن السياسة تدار بمنطق الانتباه اللحظي لا بفلسفة البُعد الثالث.
ينبغي الشروع فورًا في نمذجة وعي سياسي وعسكري جديد، يقوم على المبادئ التالية:
تفكيك بنية الولاء الشخصي والجهوي داخل المؤسسات العسكرية.
إعادة مدنية القرار السيادي عبر التعاقد الوطني لا المساومة الفئوية.
تحرير الفضاء العام من الهيمنة الرمزية للمليشيات السياسية والعسكرية.
إنتاج نخبة ما بعد صراعية تؤمن بالبرامج لا بالرايات.
هذه الرباعية يرجى أن تثمر باطراد هندسية عشرون وثبة جديدة؛ وهي:
هندسة عقل الدولة لا هندسة توازنات القوة؛
تكريس الشرعية المركبة لا الشرعية الوحيدة؛
نزع القداسة من السلاح وإعادة توطينه في حماية الدولة لا حكمها؛
تأسيس ثقافة اللاعودة التاريخية؛
إعادة تعريف التمثيل السياسي خارج السياق الانتخابي الكلاسيكي؛
توطين السيادة الوطنية داخل القرار الفدرالي المحلي؛
تطهير العقل السياسي من النكوصيين والوسطاء المزمنين؛
بناء وعي العُسر كشرط للنهضة السياسية؛
تفكيك بنية الولاء الشخصي والجهوي داخل المؤسسات؛
إعادة مدنية القرار السيادي عبر التعاقد الوطني؛
تحرير الفضاء العام من الهيمنة الرمزية للمليشيات؛
إنتاج نخبة ما بعد صراعية تؤمن بالبرامج لا الرايات؛
بناء عقيدة أمن وطني لا حزبي؛
منع إعادة إنتاج وصاية دولية في ثوب وساطة؛
توحيد أدوات الاستشراف والتحليل الاستراتيجي ضمن مؤسسات مستقلة؛
إزاحة “اللحظويين” من مفاصل القرار الوطني؛
تأسيس حاضنة سياسية فوق حزبية لحماية الانتقال؛
إرساء وعي جمعي يفكك ثقافة الزعيم ويؤسس لثقافة الدولة؛
تجريم وتجريم عسكرة الوعي الإعلامي والثقافي والاثني والديني؛
إشاعة ثقافة التحوّط الاستراتيجي بدل رد الفعل الغريزي.
كل ذلك يتطلب يكون هناك ما يمكن تسميته بالوعي السيادي، وهو الذي يؤسس بناء قدرة الدولة على حماية سرديتها؛ فالوعي السيادي ليس عنفًا مركزيًا جهويًّا دينيًا استعلائيًّا، وإنما قدرة الدولة على حماية سرديتها الجمعية من الاختطاف: سواء على يد السلاح، أو رأس المال العابر للحدود بريالات أو براميل النفط أو صفقات المخدرات والاتجار بالبشر والممنوعات، أو النزعة الشعبوية الرعناء.
إن ما نحتاجه ليس “حكومة جديدة” أو “مفاوضات جديدة” فحسب، بل براديغم وطني جديد يعيد تعريف الوطنية باعتبارها مشروعًا مفتوحًا، لا مزادًا مغلقًا، مشروعًا تتقاطع فيه القوة المنظمة مع الشرعية الشعبية، ويُدار بمنطق التحوّط الاستراتيجي لا رد الفعل الغرائزي.
ختامًا: لنمضي سويّا أسوياء سواسية نحو هندسة الخروج من الكارثة لتأسيس سيسيولوجيا الوعي الجديد، إذ لم يعد الصمت فضيلة، ولا الحذر حكمة، فالمعادلة الراهنة تقتضي وعيًا مؤسسًا على الألم العميق وليس على التبرير المؤقت، وإن السودان لن يُنقذ بخطاب العواصم، ولا بإملاءات الرباعيات، وإنما بخروج نخبته — مدنيةً وعسكرية — من سُبات اللاوعي، والدخول في مشروع يقظة كبرى أهم اشتراطاته:
يقظة تتقاطع مع ثقافة الاصطفاف وتستبدلها بثقافة الاصطفاء والاصطفاف الوطني،
يقظة تُقنن الخوف وتُرشد الغضب وتصون المصالح،
يقظة لا ترى في العسكر خزانة حل، ولا في السياسة باب نجاة… وإنما ترى في الوعي بوابة الخلاص الوحيد.
يقظة لا تبخل وتأنس في نفسها كفاءة الإنفاق وتبدل ذاتها لأخرى جديدة: ﴿هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن یَبۡخَلُۖ وَمَن یَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا یَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِیُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَاۤءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡا۟ یَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُونُوۤا۟ أَمۡثَـٰلَكُم﴾ [محمد ٣٨]
مقال أسبوعي للغد السوداني
orwaalsadig@gmail.com