
عمر أرباب يكتب.. رؤى من نافذة رواية موسم الهجرة إلى الشمال
قرأت موسم الهجرة إلى الشمال للمرة الثالثة ولا أظن بأنها ستكون الأخيرة، فالقراءة للطيب صالح تشبه التنقيب عن البيانات (Data Mining) ليس في استخراجها لأنماط ومعلومات قيمة من البيانات الكبيرة بواسطة التقنيات الإحصائية والتعلم الآلي وكذلك ليس بهدف اكتشاف الأنماط والتنبؤ وتحليل العلاقات، بل في أخذها كل فسيفساء ذلك وتفتقه وتخلقه عن لحظه إبداع فائق، تفجر عنه كل ذلك بيسر وسهولة، فلحظة الدهشة التي تتولد عنها المعاني في الذهن توحد التفاصيل وتخرزمها في ضغطة زر، عندما تضعط عليها تشاهد الجمال والروعة في 172 صفحة، تملأ وقتك بطِيب الطيب بلا ملل.
أنت تقرأ هذه الرواية ربما تشعر أنك أمام فيلم سينمائي لكنك ستتجاوز هذا الشعور إلى ما فوقه، فشخوص العمل أبعد من أن تحاصرهم شاشة، تنهض عوالمهم أمامك، ويتسرب إليك الإحساس فتضحك تارة وتحزن أخرى وتشعر بالأسى في بعض المرات، فأنت هنا ليس في سينما ثلاثية الأبعاد، بل أنت شخص داخل محاكمة مصطفى سعيد أو حضور في أُنس حاج احمد وود الريس وبنت مجذوب وبكري ومحجوب أو مشاهد مع الأعراب في حفلة الصحراء.
يمكن نمذجة ومحاكاة ذلك ببرنامج ذكاء اصطناعي AI تسأله عن موسم الهجرة إلى الشمال فيأخذك في رحلة عبر الصور الملونة والفيديو إلى ود حامد بتفاصيلها ثم مرورا عابرا بالصحراء إلى الخرطوم ومن ثم القاهرة وصولا إلى لندن وفي سُرتها غرفة مستر مصطفى سعيد، وكذلك يمكن لبرنامج الذكاء الاصطناعي أن ينمذج لك بنت مجذوب في شخصية ربما تشبه بت قضيم وتتراءى لك جين موريس وكأنها ممثلة هوليودية تعرفها جيدا ويخيل لك بأنك التقيت جد الراوي في أم ضو بان أو كدباس، وبلا شك بأنك صادفت ود الريس وهو يتحدث عن جمال بنات الخرطوم ويفصح لك بأنه يريد أن يملأ صدره منهن، أما محجوب فأنت واجده في كل حي أو قرية نوارة صباحاتها ومرق حوادثها وشيال تقيلتها، أما حسنة بنت محمود ربما تسعفك الصدفة المحضة في لقائها، فهو نادر لكنه غير مستحيل، أما مصطفى سعيد سينمذج لك برنامج AI أشخاصا عن شخصه وسيعمل عنه حلقة بانورامية ويستضيف فيها الكثيرين ليحكوا عنه، وسيتوارى هو عن الكاميرا ربما يظهر في لقطة الغرق قبل أن يصير وجبة لأسماك النيل.
وأنت سوف تغمرك فرحة عودة الراوي من رحلة الغربة لا الاغتراب، ثم سلام الروح مع لمة العشيرة والأهل، عاد النهر إلى مجراه، الانفتاح على القرية سُرة الأصل وراسخ الجذور، تتحسس معه ما حدث من تحول في القرية، هي راسخة لذا تحول الغريب مصطفى سعيد إلى أحد افرادها وهنا الانتصار للأصالة مع الاستفادة من جوهر المعاصرة وعيا بالحقوق أو استدامة للخير المركوز في خويصة النفوس.
ومن بعدها ستذهب مع رحلة الكشف عن وجه الغريب صحراء الظمأ الذي احتمى بالنيل لعله يشفى من مرض الاستسقاء الوجودي.
ومن هنا يتخلى الراوي عن الحكي ليعطيه لمصطفى سعيد لينقل لنا بكاميرا سينمائية ما كان وما سيكون في رحلة الغربة والغرابة، خروج ذكي من الراوي وتسليم راية دفة الحكي ليشهد مصطفى سعيد على نفسه وعلى مجتمع صب فيه من الأمراض ما جعل رحلة الشفاء شبه مستحيلة.
الميتا سرد أو الرواية داخل الرواية كانت فكرة عبقرية لصعود تيار السرد وتفعيل كاميراه السينمائية لتنقل المشاهد بحياد دون تدخل لمقص رقيب الراوي، الذي بدأ متحفظا نوعا ما في ردوده على أهله عند عودته واحاطتهم له بالأسئلة عن تلك البلاد التي تموت من البرد حيتانها.
وهذا التطواف مع رحلة السرد والذي أخرجنا من رؤى وطيوف الحرب التي تشبه بيت مصطفى سعيد في لندن (وكر الأكاذيب الفادحة)، فهي حرب الأكاذيب الفادحة، ورغم فداحة الحرب التي نشبت عن عمد، أكذوبة وراء أكذوبة، لكننا نردد مع الراوي (سأحيا لأن ثمة أناس قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن ولأن علي واجبات يجب أن اؤديها، لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن معنى)، فمهما حدث ومهما كانت رحلة البحث عن الوطن فنحن أبناء الحياة، ننتمي لها وللخير والسلام (ونظرت من خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا زالت بخير، …أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكنني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور له هدف).