عروة الصادق يكتب.. “حفريات ما بعد الدولة في استنطاق السودان من رُكامه الخامس”
● كان ولا زال التأثير الدولي والتدخل في الشأن السوداني السمة الغالبة والمهيمنة على القرار الداخلي والمتحكمة في المصبر الوطني، ونرى اايوم كيف تتهادى الرباعية الدولية على جرح الخرائط كما تتهادى النار على هشيمٍ أُغفل عنهُ الماء والتاريخ، لا تتقدّم باسم الخلاص، بل بوقع أحذيةٍ ثقيلة تذرع الجغرافيا وتنهش السرد، مطمئنة أن ما من أحدٍ يقف في آخر المنعطف يضع خطوطًا حمراء أو حتى علامات استفهام، وذلك لإنها رباعية لا تصدر عن التقاء إرادات قدرية، وإنما عن تشابك شرايين المصالح العابرة للدولة، المتعدية على المعنى، المتناسلة من رحم الاستراتيجيا لا الأخلاق، ومن فقه الهيمنة لا من شريعة التعاقدات العادلة التي تنظم علاقات الأمم وتحفظ مصالح الشعوب، فرغم ضرورتها وتجربتها في دعم الثورة، وحصار الانقلاب، وإعفاء الدين، وإلغاء العقوبات، ودعم الانتقال اامدني، وإدانة الحرب وأطرافها، إلا أنها رباعيةٌ تكتب بلغة البازار، لا بلاغة البيان، وتحسم المعادلة بميزان الذهب والنفط والموانيء لا ميزان الدم والأرواح الموانيء.
في ظاهرها رباعية دولية لاجتماع وزراء الخارجية الأربعة (الولايات المتحدة الأمريكية ، والمملكة العربية السعودية، والإمارات، ومصر) وفي باطنها هندسة جديدة لانفصال السيادة عن أصحابها، وعقد نكاح غير شرعي بين من يشعل الحرائق ومن يدّعي إطفاءها، وهي ليست لقاءً لإنقاذ السودان، بل صفقة لإعادة ترتيبه وفق خرائط لا تظهر على شاشات الأخبار، خرائط تُرسم بأقلام الاستخبارات وتُراجع في غرف تصدر فيها الأحكام كأنها بيانات عسكرية، قد تكون أشبه بمنتوج سايكس بيكو، فالسودان هنا ليس وطنًا مدمّى، بل موقعًا استثماريًا مؤجَّلاً، حقلًا خامًا لتجارب السيطرة السائلة، إنه مادة خام في مختبر السياسات العابرة للحدود، ولم يعد كيانًا يستدعي التحرر، ولا شعبًا يُفترض أن يُستشار.
تتحرك الرباعية الدولية لا بوصفها وسيلة لوقف الحرب، وإنما كأداة لتهدئة التوازنات، لتمديد الفوضى المُنظمة، ولشرعنة الأمر الواقع لا تغييره، وكأن السودان قيد التفاوض وقدره ليس بين أهله، بل بين أولياء أمرٍ جدد يرتدون ربطات العنق بدلًا من البزات العسكرية، وإنهم يفاوضون على من يدير الموانئ، من يحرس أنابيب النفط ومناجم الذهب، ومن يوقّع عقود الاستثمارات في مقابل “تهدئة النزاع”، وكل ما عداه تفاصيل تصلح للتصريحات الصحفية.
وفي الهامش هناك تصرخ القوى المدنية بلا صوت ولا دليلٍ هادٍ، تتناسل مبادراتها كما يتكاثر الرماد بعد الحرائق، ولا ظل لمشروع ولا صدى لعقيدة سياسية موحدة وجامعة، ولا بصيص أمل لمشروع وطني جامع، فقد تحوّلت القوى المدنية إلى كائن هشّ فاقد للتماسك أنهكته مؤمرات العسكر ومحاولات الاختراق بالمال والاغراءات والسلطة تارة والتضييق على منتسبيها بالقتل والتشريد والاعتقال والانتهاكات والتخوين، فأصبحت كائتا سياسيا تائها بين تنازع النوايا الحسنة وسباق التأييد الخارجي، لذلك فإنها معضلة مركبة ليست في الأدوات فقط، بل في الجوهر نفسه، وفي غياب الطرح التأسيسي، وفي العجز عن إنتاج سردية تُلهم القواعد لا تُرضي محطات الاستضافة الخارجبة (القاهرة؛ أبو ظبي؛ نيروبي؛ استنبول .. الخ). وهي قوى لم تخسر المعركة فقط، وإنما خسرت زمام اللغة، وأدمنت التداول في مساحات لا تقرر شيئًا، وتركت ميادين الناس للموتى والجنرالات.
وما بين الرباعية العازفة على وتر المصالح، والمدنية المحاصرة في قفص البلاغة الفارغة، يتضخم الوحش الحقيقي: اقتصاد الحرب وكارتيلاته، لأنه الاقتصاد المستتر خلف البزات والعمائم ولحا الضلال، وبنادق الحركات، الاقتصاد الذي لا يُحتسب في ميزانيات الدولة، لكنه يحكم كل قرار سيادي، وهو ليس ظل الدولة، وإنما صاحبها الشرعي الجديد، تحكمه شبكة من أمراء الذهب، سادة الطرق غير المعبدة، ووسطاء النفط المنهوب، وسنة انقلاب أكتوبر 2021م وكل بندقية تُطلق من أيادي فلول النظام السابق، تُطلقها دفعة بنكية ما، وكل تحرّك عسكري هو استثمار مؤجل في الخرائط والامتيازات، وهذا الاقتصاد لا يُمكن نزع سلاحه إلا بتفكيك بنيته التمكينبة المتجذرة لثلاثة عقود، والتي تقتات على تمزيق الجغرافيا وتحويل الجيوش إلى شركات أمنية، والشعوب إلى قُطعان نازحة في وطن لا يعترف بها.
وحين نُدرك أن الدولة ذاتها لم تعد موجودة، بل صارت أثراً بعد كيان، يبرز السؤال التأسيسي: كيف نبني دولة جديدة من ركام اللا شيء؟ لا بالعودة إلى دستور مهترئ، ولا بإحياء جثة مؤسسات تآكلت، بل بالبدء من القاع، من الجذور، من المجتمعات التي ما زالت تحرس بقايا الحياة، وتحرص على أرض ومسار ومرحال وحلة وفريق وقرية وكمبو ودامرة، فالدولة لا تُستعاد من القصر، وإنما تُستولد من القرى، من لجان الأحياء، من المجالس القاعدية، من ذلك الهامش الذي لطالما احتُقر في خرائط الخرطوم المركزية، إنها دولة تبدأ من نثر البذور في الحقول والحواشات والضهااري، وليس من توزيع الكراسي في الفنادق والعواصم، ومن العدالة العرفية التي تُصلح ذات البين بـ (القلد والبروش والجودية)، لا من نصوص العدالة التي قضاتها سدنة للحزب المخلوع وكانوا محامين يدافعون عن البشير ورفاقه المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية.
نحن نحتاج إلى هندسة معكوسة للدولة، تبدأ من الأطراف، وتصعد إلى المركز عبر تراكم شرعي دون فرضه قهرًا، ونحتاج إلى “سيادة معكوسة”، “سيادة إنسانية” تبدأ من الأرض وتصعد إلى العلم، تبدأ من الانسان ومن ثم تصون البنيان، تنطق من القطية والكرنك والكركور إلى البرلمان، وليس من الطائرة إلى المرسوم الرئاسي، إننا نحتاج إلى دستور لا يُكتب بالحبر على ورق مصقول خلفيته صقر الجديان، بل دستورا منظوما يُنقش في الوعي الجماعي ولا يُستفتى عليه في صندوق وإنما يُمارس في الطريق والحواري، في السوق والوزارة، في المدرسة والسفارة، في الحقل وهرم الإدارة، ولا شيء قابل للبقاء إن لم يُبنَ من الأسفل فكل بنيان يخر سقفه إن تداعى وضعف أساسه.
وإذا كان الخراب عامًا غالبًا فلن نقبل بأقل من أن يكون المستقبل واضحًا، لأننا نحتاج أن نحلم لا فقط لنهرب من الواقع، بل لنهزمه ونصرم أحداث الزمان ونبرمها لصالح أمتنا، ونحتاج أن نتخيّل سودانًا بعد عشر سنين، ليس فقط خاليًا من الحرب، بل عامرًا بالحياة، بسوق لا يحتكره تجار السلاح، بجيش لا يملك الذهب، بميناء لا يُؤجَّر للدائنين، بمدرسة لا تُغلق في موسم المعارك، إننا نحتاج دولة تفكّك البنية الرمادية للسلطة الظلامية الأيدولوجية التي جثمت على صدور الشعب لثلاثة عقود وتصر على الاستمرار والاستثمار في دماىهم، دولة تهدم التمكين وتهزمه وتعيد إنتاج المعنى، إننا نحتاج أن نُعرّف “الوطن” من جديد، من وصفه مساحة ترابية نُدفن فيها، إلى عقد إنساني نختار أن نحيا داخله يتعاقد اجتماعي جديد وعهد أخلاقي فريد، سودان لا يُدار بخريطة نفوذ حكومة (أمل)، بل بخريطة أمل حقيقية يرى فيها كل أبناؤه وبناته ملامحهم الحقيقية دون مساحيق تجميلية أو أقنعة أو شخصيات تمثيلية.
ليس في الخراب خلاص أو نجاة ولكن فيه إشارات، كذلك ليس في الرباعية حل، لكن فيها جرس إنذار قوي ومدوي يمكن أن يحدث فارقا، وللأسف ليس لدى القوى المدنية مُعجزة، لكن فيها بقايا شعلة يمكن أن تتقدم وتنير الطريق، ومن النؤكد أنه ليس في الحرب مستقبل ولكن في رمادها يمكن أن نزرع نبتة، ومن هذا الرماد يمكن أن يثب وطننا كطائر العنقاء، وليس في الصمت والإذعان سيادة، لكن في الكلمة الملتئمة يمكن أن نعيد بناء الحُلم كما نظمت كلمتنا وهتافنا ونشيدنا صفوف الثورة التي وحدت السودانيات والسودانيين ووجهتهم لبوابات التاريخ التي أشرعت على الأمم العظمى والدول الكبرى
● ختاما: إن هذا زمن ما بعد الخراب والدمار والتشريد والانتهاكات، وما بعد الدولة، ما بعد اللغة المستهلكة، إننا في زمن نحتاج فيه أن نولد من رمادنا لا من اتفاقيات لا نقرأها أو تملى علينا، لذلك واجب الساعة أن نصوغ جغرافيتنا السياسية من جديد، لا بأن نرسم حدودًا، بل بأن نُجدد المعاني والأسس السلمية والسليمة التي ستحفظ استدامة الايتقرار، وأن نُوقن جميعا أن السيادة لا تُستورد، والديمقراطية لا تُبرمج، والعدالة لا تُؤجَّر، والنخوة لا تشترى، والسيادة للشعب ليست لحملة البنادق.
لذلك في وطننا هذا هناك معركة لم تُخض بعد، وهي ليست معركة بين جنرالين، وإنما بين فكرة دولة وفكرة مستعمرة، بين مواطن وحاوية ذخيرة، بين حقّ تاريخي واستثمار طارئ، وتلك المعركة ينبغي أن تبدأ الآن وليس بعد هدنة، فهي معركة تُخاض بلا بارود، ولكن بشجاعة المعنى والوعي، والمفردة الأولى في تلك المعركة: لا نُباع؛ وعبارتها الثانية: هذه الأرض لنا، أبطالها لا زالوا يحملون جذوة الثورة ويذكرون الرباعبة أنهم وحدهم من أسقطوا طاغية ونظامه عجز عن ترويضه العالم بالعقوبات والملاحقات الجنائية الدولية.
مقال أسبوعي للغد السوداني
orwaalsadig@gmail.com
