
“حين أكتب عن خوفي، أضعه خارج نفسي.”
بقلم: مكارم جميل
قالتها سيلفيا بلاث، وكأنها تفتح بابًا ننساه غالبًا.
الخوف، هذا الرفيق الصامت في دواخلنا، لا يُمكن طرده، لكنه يُمكن رسمه. يُمكن غناؤه. يُمكن تحويله إلى قصة تُروى، لا لعنة تُكتم.
منذ البدء، والإنسان يكتب على جدران الكهوف ما لا يستطيع أن يقوله,يرسم الوحش ليتوقف عن ملاحقته في الحلم، ينحت وجه الموت ليصير ملموسًا، فيكفّ عن كونه شبحًا.الخوف لا يزول، لكنه يتحول حين يُمسَك بيد الإبداع.في كل قصيدة، هناك خوفٌ متخفٍ بين السطور.في كل لوحة، ظلّ ارتجافةٍ خفية.حتى النغمة الشفافة قد تكون صرخة مكسورة لا يريد صاحبها أن يُسمعها صريحة. الفن لا يهرب من الخوف، بل يقترب منه حتى يلامسه.يحاوره.يشكّله.ثم يضعه أمامنا كطفلٍ تاه طويلاً ويحتاج من يسمّيه باسمه.
وفي عمق النفس، حيث تتكوّن مشاعرنا قبل أن تلبس اللغة، هناك غرفة مظلمة يسكنها الخوف.
ليس دائمًا خوفًا من خطر، بل من فقد، من فشل، من عدم الفهم، من أن لا نكون كافيين، أو أن نُنسى، أو أن نموت قبل أن نُعبّر عمّن نكون.
الخوف النفسي ليس طارئًا، هو جزء من وعينا بحدودنا.وحين لا نجد اللغة، يتحوّل إلى قلق، ثم إلى صمت، وربما إلى قناع نرتديه.هو لا يمرّ كريحٍ عابرة في النفس، بل يترك فيها تجاويف صامتة.حين يستقرّ، يُربك الإيقاع الداخلي للإنسان، يُشوّش علاقته بذاته، بأحلامه، بمن حوله. يتسلّل إلى الجسد على هيئة توتر في العضلات، تسارع في النبض، ضيق في الصدر لا اسم له.ويغزو الروح كهمس داخلي: “لا تُحاول. لا تكفي. لا تَقْدِر.”
إنه شعور لا صوت له، لكنه يضغط باستمرار، كوزنٍ خفيّ على الذاكرة والمزاج والنظرة إلى الحياة.وحين يطول مكوثه،يتحوّل الخوف إلى ضباب يعزل الفرد عن نفسه.يصير الإنسان غريبًا حتى عن مشاعره، فاقدًا للغة التعبير، وكأن العالم فقد ألوانه، وصار باهتًا بلا سبب واضح.
هنا، لا يأتي الفن كزينة، بل كإنقاذ.الرسم، حينها، ليس ترفًا بل تنفّس.الكتابة ليست مهارة، بل نجاة.الموسيقى لا تُسمع فقط، بل تُحمل كيدٍ حانية تربّت على الداخل المرتجف.الفنّ يخلق مساحة مشتركة، يعبر فيها الخوف من كونه سجنًا داخليًا إلى تجربة إنسانية عامة.
لهذا السبب، لا نخاف من أعمال فنية “مخيفة” – بل نرتاح لها أحيانًا، لأنها تضعنا وجهًا لوجه مع ما نهرب منه، دون أن نكون وحدنا.
وما الأفلام، والكتب، واللوحات، إلا أرشيف عالمي للخوف، صيغ بطرق جمالية، جعلت الرعب قابلًا للفهم، والقلق قابلًا للتأمل.
حتى في أوج الظلام، يرسم الفن نافذة.وربما لهذا السبب، لا يمكن أن توجد فنون حقيقية دون المرور بممرات الخوف.لأن الفن ليس هروبًا منه، بل لغةٌ للحديث معه.و إعادة صياغة للضعف البشري بلغة جمالية تمنحه القوة، والتفهم، وأحيانًا حتى الشفاء.
لا نُشفى تمامًا، لكننا لا نعود كما كنّا. نخرج من التجربة وقد تركنا جزءًا من خوفنا على الورق، على القماش، في النغمة.
كأننا نقول له: “أنت في داخلي، نعم، لكنك لست سيد هذا المكان.”