عروة الصادق يكتب.. “حول مقترح منح حكم ذاتي لإقليم دارفور”
● ورد في أحد المواقع الإلكترونية أن دولة عربية تطرح حكمًا ذاتيًا لـ”دارفور” وتدعو لعودة أطراف الحرب إلى المفاوضات، ورغم عدم اطلاعي على فحوى مبادرة حديثة بهذا الصدد؛ إلا أن مقترح الحكم الذاتي لإقليم دارفور، كمدخل لحل النزاع السوداني، يمكن أن يُطرح مجددًا في لحظة وطنية مأزومة تُشرف فيها الدولة السودانية على التفكك الكامل بفعل حرب شاملة أنهكت نسيجها الاجتماعي ودمرت بنيتها المؤسسية، وهذا المقترح ليس جديدًا من حيث المبدأ، فقد ورد بأشكال مختلفة في محطات متعددة من جهود التسوية، مثل اتفاقية أبوجا 2006م، ووثيقة الدوحة 2011م، واستفتاء 2016م، لكن السياق الذي سيُطرح فيه اليوم مختلف كليًا.
– لأننا اليوم لا نتحدث عن تمرد محدود النطاق أو مظالم تنموية قابلة للاحتواء، بل عن انهيار شامل في مركز الدولة وهياكلها، وعن حرب ذات طابع استعلائي استعدائي جهوي وعرقي وطبقي تغذيها تراكمات عقود من السياسات الإقصائية المركزية العنصرية التي وصلت لإبادة ما عرف بالحواضن.
– إن فكرة الحكم الذاتي يمكن أن تكون أداة عقلانية ضمن تسوية شاملة، إذا ما قُدمت بوصفها حلقة في مشروع وطني متكامل لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة من المواطنة المتساوية والتوزيع العادل للسلطة والثروة، وليست مجرد صفقة سياسية لتهدئة بقعة جغرافية مشتعلة، لأن التجربة السودانية كما توضحها الوثائق والتحليلات المتوفرة وتجارب السلام المجهضة، تُظهر بجلاء أن أي معالجة جزئية للأزمات الجهوية – دون إصلاح عميق في بنية الحكم ومنظومة العدالة ومفاهيم الانتماء الوطني – لا تلبث أن تتحول إلى وقود جديد لصراعات أوسع، فدارفور ليست مجرد إقليم مهمش، بل تمثل مرآة مكبرة لأزمة السودان في انعدام التوازن السياسي، وانكشاف العدالة الاجتماعية، وتفكك الدولة على أسس الولاء الإثني والديني والحزبي، وهي مربوطة بوشائج عضوية وجيوسياسية بكردفان ولها سهم وحي لمواطنيها في كل مدن السودان.
– لذلك فإن الحكم الذاتي لدارفور لن يكون حلاً قابلاً للاستدامة إلا إذا اندرج في عملية سياسية شاملة يتشارك فيها السودانيون – بمختلف مناطقهم وهوياتهم – في إعادة تعريف الدولة السودانية، من حيث وظائفها وموقع المواطن فيها، وأي مقترح للحكم الذاتي يجب أن يستند إلى حوار دستوري جامع داخلي من السودانيين وليس معلبا من الخارج، يضمن التعددية، ويقر بالتنوع الثقافي والإثني بوصفه ثروة وطنية، لا تهديدًا للوحدة، وينبغي أن يتضمن التزامات واضحة بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، وتعويض الضحايا، وتهيئة الظروف الآمنة لعودة النازحين واللاجئين، وإعادة هيكلة مؤسسات الحكم على أسس الكفاءة والتمثيل العادل، والتعاون الدولي في كل ما يخص الإقليم جنائيا ودبلوماسيا وتنمويا.
– كما أن نجاح أي صيغة للحكم الذاتي مرهون بوجود ضمانات إقليمية ودولية جادة تضمن تنفيذ الالتزامات، وتوفر التمويل اللازم لإعادة الإعمار، وتحمي التجربة من النكوص أو الاستغلال السياسي، ولقد أثبتت التجربة السودانية أن الاتفاقات المنفصلة والموسمية، غير المؤسسة على مشاركة حقيقية ومساءلة شفافة، لا تلبث أن تتآكل وتفقد أثرها.
– ولذلك فإن من الخطأ التعامل مع مقترح الحكم الذاتي كحل تقني أو إداري، بل يجب النظر إليه كجزء من عملية إعادة تأسيس السودان ذاته، على قواعد جديدة.
– وعلينا ألا ننسى أن فكرة تجزئة السودان وتقسيمه مخطط صهيـ.ـوني قديم أفصح عنه مسؤول الموساد الاسرائيـ.ـلي آفي دختر في ندوة شهيرة، لذلك فإن الحديث عن الحكم الذاتي لإقليم دارفور أو أي من الأقاليم الخمسة لا ينبغي أن يخرج من توجه فدرالي يعالج أزمات مظالم الأقاليم لا توجه استقلالي يهيئها للإنفصال ويعرض البلاد للتقسيم.
● ختامًا: إن ما تحتاجه البلاد اليوم ليس مجرد معالجة موضعية لحريق هنا أو هناك، بل مشروعًا وطنيًا جامعًا يعيد تعريف العلاقة بين المركز والهامش، بين الدولة والمجتمع، وبين الإثنيات المتنوعة التي تشكل فسيفساء السودان، والحكم الذاتي لدارفور يمكن أن يكون بوابة نحو هذا المشروع إذا اقترن بالإرادة السياسية، والحوار الشامل، والرؤية العادلة، والشجاعة في مواجهة الحقائق، لا الهروب منها، عندها فقط يمكن القول إن دارفور لم تعد نارًا في الهامش، بل أصبحت مفتاحًا للسلام العادل والمستدام في قلب السودان.
مقالة أسبوعية.. موقع الغد السوداني
Email:
orwaalsadig@gmail.com